ظاهرة الحذف في النحو العربي
<blockquote class="postcontent restore">
حقيقة الحذف :
من المهمِّ قبل الخوض في بيان أحكام الحذف ومسائله أن أبدأ ببيان حقيقته ؛ إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره .
وقد رجعت إلى مظانِّ الحذف في قدر لا بأس به من كتب أصول النحو وفروعه ،
فلم أجد في ما رجعت إليه بيانًا لحقيقة الحذف أو تعريفًا له ، فرجعت إلى
معجم مصطلحات النحو والصرف والعروض فوجدت هذا التعريف :
الحذف : " يُراد به في النحو إسقاط كلمة من بناء الجملة ، وقد تكون هذه
الكلمة ركنًا من أركانها كالمبتدإ أو الخبر أو الفعل أو الفاعل ، وقد تكون
حرفًا ، وقد تُحذف الجملة ... " ، وهذا لا يعدو كونه تعدادًا لأنواع من
الحذف ، ولا يصحُّ أن يكون حدًّا مبيِّنًا للحذف النحويِّ ، فهو أشبه
بتعريف للحذف الصرفيٍّ ؛ إذ يصدق أن نقول : الحذف في الصرف : إسقاط حرف من
بناء الكلمة .
واطَّلعت على رسـالة علميَّة من البحوث الرائدة في الموضوع – وهي رسالة (
الحذف والتقدير في النحو العربي ) لعلي أبي المكارم ، فوجدت تعريف الحـذف
فيها على النحو التالي :
إسقاط لصيغ داخل النصِّ التركيبيِّ في بعض المواقف اللغويَّة ، وهذه الصيغ
يُفترَض وجودها نحويًّا لسلامة التركيب وتطبيقًا للقواعد ، ثمَّ هي موجودة –
أو يمكن أن توجد – في مواقف لغويَّة مختلفة .
وهو اجتهاد مشكور من الباحث ، ولكنَّ أبرز ما يمكن أن يؤخذ على التعريف
قوله : ( وهذه الصيغ يُفترَض وجودها نحويًّا لسـلامة التركيب وتطبيقًا
للقواعد ) ؛ لأنَّ هذا لا يصدق على أيٍّ من نوعي الحذف :
- ففي الحذف الواجب لا يُفترض وجود المحذوف لسلامة التركيب وانضباط القواعد
، بل يكون ذكره خطأً مخلاًّ بسلامة التركيب وخارقًا للقواعد .
- وفي الحذف الجائز لم يدلّ على المحذوف أنَّ غيابه أخلَّ بسلامة التركيب
أو كسر القواعد - فبدهيٌّ أنَّ المحذوف جوازًا يجوز حذفه وذكره من غير أن
يوصـف التركيب بالغلط النحويِّ - وإنَّما دلَّ عليه أنَّه ذُكر في استعمال
آخر ولغرض آخر ؛ فاللغة استعمال قبل أن تكون قواعد .
وإذا كان لي أن أُدلي بدلوي لأقدِّم تعريفًا نحويًّا للحذف فقد راجعت أحوال الحذف وأحكامه وخرجت منها بهذا التعريف :
الحذف الجائز : تعمُّد إسقاط عنصر ( إسناديٍّ أو غيره ) من عناصر بناء
النصِّ ؛ لغرض ، مع سـماح النظام النحويِّ بذكره ، ومع دلالة باقي عناصر
النصِّ عليه ، وإمكان ذكر هذا العنصر في مقام آخر ولغرض آخر .
الحذف الواجب : إسقاط عنصرٍ إسـناديٍّ من نصٍّ لا يسـمح النظام النحويُّ
بذكره فيه ، مع دلالة الأصل التركيبيِّ للنصِّ عليه ، وامتناع ذكره في كلِّ
الأحوال .
قيمة الحذف ومزاياه :
يرتبط الحذف ارتباطًا وثيقًا بمعنى القول ودلالته وقدرته على التأثير ؛ فهو
وسـيلة للإيجاز الَّذي هو أحد مقاصـد العربيَّة ، والحذف في مقامه يهذِّب
الجمل ، ويزيد نصيبها من البلاغة والرونق ، ويقوِّي قدرتها على إيصال
المعنى المراد .
تحت عنوان ( القول في الحذف ) يقول الإمام عبد القـاهر : " هو باب دقيق
المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر ، شبيه بالسـحر ، فإنَّك ترى به ترك
الذكر أفصح من الذكر ، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة ، وتجدك أنطقَ ما
تكون إذا لم تنطق ، وأتمَّ ما تكون بيانًا إذا لم تُبِنْ .
ويذكرعلماء البلاغة للحذف ثلاث مزايا ، هي :
1- إيجاز العبارة .
2- زيادة رونقها وصـيانتها من الثقل والترهُّل الَّذين يحدثهما ذكرُ المعلوم للقرينة .
3- بناؤها على إثارة فكر المتلقِّي وخياله في الاستدلال على جزء المعنى الَّذي لم يُذكر اللفظ الدالُّ عليه .
هذا ما يُذكر مَزِيَّةً عامَّةً للحذف ، ويبقى وراء كلِّ تعبير سرٌّ خاصٌّ به قائم على اختلاف المقامات والأحوال والأغراض .
أغراض الحذف وأدلته :
إذا نظرنا في كتاب سـيبويه وجدناه ينصُّ في مواضع كثيرة على ضرورة الحذف
لأسباب أدخلها البحث الحديث في فنِّ البلاغة ، كالتخفيف والإيجاز والسعة ،
ويبيِّن أنَّ العرب قد جرت عادتها على الحذف ، وحبَّذتْه في غير موضع .
يقول سيبويه : " واعلم أنَّهم ممَّا يحذفون الكلم وإن كان أصله في الكلام
غير ذلك ، ويحذفون ويعوِّضون ، ويستغنون بالشيء عن الشيء الَّذي أصله في
كلامهم أن يُستعمل حتى يصير ساقطًا ... " ، ويقول : " وما حُذِف في الكلام
لكثرة استعمالهم كثير " .
ويقول كمال الدين الأنباري : " والحذف في كلامهم لدلالة الحال وكثرة الاستعمال أكثر من أن يُحصَى " .
وقد تطرَّق النحاة في تصانيفهم إلى ذكر أغراض الحذف ، لكنَّها أغراض خاصَّة
بالمحذوف ، ولذلك فهي متفرِّقة في أبواب النحو بحسب المحذوفات .
شروط الحذف :
يذكر علماء البلاغة أنَّ " الحذف يفتقر إلى أمرين :
أحدهما : قابليَّة المقام ، وهو أن يكون السامع عارفًا به لوجود القرائن .
والثاني : الداعي الموجب لرجحان الحذف على الذكر " .
وقد اهتمَّ النحاة وعلماء البلاغة بدراسة دواعي الحذف واستنباط القرائن
الدالَّة على المحذوف ، وقد أجمل ابن هشام الشروط الَّتي لا يجوز الحذف
بغيرها فذكر ثمانية شروط :
الشرط الأول : وجود دليل للحذف ، ويُفتقَرُ إلى هذا الدليل إذا كان المحذوف :
· جملة بأسرها ، كقولك : زيدًا ، لمن سأل : مَن أضرب ؟
· أو أحد ركنيها ، كما في قوله تعالى : ﴿ قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾
، أي سلامٌ عليكم أنتم قومٌ منكرون ، فحذف خبر الأولى ومبتدأ الثانية .
· أو لفظًا يفيد معنىً فيها هي مبنيَّة عليه ، كما في قوله تعالى :
﴿ تَالله تَفْتَأُ ﴾ ، أي : لا تفتأ .
أمَّا إذا كان المحذوف فضلة فلا يشترط لحذفه وجدان الدليل ، ولكن يُشترط أن لا يضرَّ حذفه بالمعنى ولا بالصناعة النحويَّة .
ويتنوَّع دليل الحذف إلى نوعين :
1- دليل غير صناعيّ : وهو إما حاليّ ، كقولك لمن رفع سوطًا : زيدًا ،
بإضمار ( اضرِب ) ، أو مقاليّ ، كما في قوله تعالى : ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ
اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً ﴾ ، أي : أنزلَ خيرًا .
ويُشترط للدليل اللفظيِّ أن يكون طبق المحذوف .
2- دليل صناعيّ : وهذا لا يُعرف إلا من جهة صناعة النحو ، كما في قراءة من
قرأ : ﴿ لأُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ ، فقد قالوا : إنَّ التقدير :
لأنا أقسم ؛ لأنَّ فعل الحال لا يقع جوابًا للقسم عند البصريِّين .
الشرط الثاني : ألاَّ يكون ما يحذف كالجزء ، فلا يُحذف الفاعل ولا نائبه ولا مشـبهه
( اسم كان أو إحدى أخواتها ) .
الشرط الثالث : ألاَّ يكون مؤكَّدًا ، فلا يصحّ : الَّذي رأيت نفسه زيد ؛
لما يُوقع فيه ذلك من التناقض ، فالتوكيد إسهاب والحذف إيجاز ، ولا يجتمعان
.
الشرط الرابع : ألاَّ يؤدي حذفه إلى اختصار المختصر ، فلا يحذف اسم الفعل دون معموله ؛ لأنَّه اختصار للفعل .
الشرط الخامس : ألاَّ يكون المحذوف عاملاً ضعيفًا ، فلا يحذف الجارُّ
والجازم والناصب للفعل إلا في مواضع قويت فيها الدلالة على المحذوف وكثر
فيها الاستعمال ، ولا يُقاس عليها .
الشرط السادس : ألاَّ يكون المحذوف عوضًا عن شيء .
الشرط السابع : ألاَّ يؤدِّي حذفه إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه .
الشرط الأخير : ألاَّ يؤدِّي الحذف إلى إعمال العامل الضعيف مع إمكان إعمال العامل القويّ .
ويُعتبر دستورًا للدراسة النحويَّة للحذف قول ابن هشام : " الحذف الَّذي
يلزم النحويَّ النظرُ فيه هو ما اقتضته الصناعة ، وذلك بأن يجد خبرًا بدون
مبتدإ أو بالعكس ، أو شرطًا بدون جزاء أو بالعكس ، أو معطوفًا بدون معطوف
عليه ، أو معمولاً بدون عامل ... " .
صور الحذف وأنواعه :
تتعدَّد صور الحذف في النحو العربيِّ ، من حذف علامات الإعراب ، وحذف أجزاء
الكلمات ، وحذف الأدوات ، وحذف أجزاء التراكيب ، وحذف الجمل ، ويتنوَّع
الحذف إلى نوعين :
الحذف الواجب : وهو حذف يوجبه النظام النحويُّ للجملة ، بحيث يكون ذكر
المحذوف خطأً ، ويقع هذا الحذف في العناصر الإسناديَّة – كالمبتدأ في
الجملة الاسميَّة ، والفعل في الجملة الفعليَّة – عدا الفاعل .
الحذف الجائز : وهو حذف يقتضيه الموقف الاسـتعماليُّ ، حيث يكون الذكر غير
ممنوع في الصـناعة لكنَّه يضـرُّ بالمعنى المقصـود من المتكلِّم ، ويقع على
العناصر الإسناديَّة وغيرها .
ويُحاط كلُّ نوع من أنواع الحذف الواجب بقواعد وشروط تنظِّم وقوعه ، فلا
مجال فيه لغير النظام النحويِّ ، أمَّا الحذف الجائز فإنَّ أهم شرط فيه هو
وجود القرينة اللفظيَّة أو المعنويَّة ، وهو ما سمَّاه ابن هشام " دليل
الحذف " ، وجعل أحد نوعيه الدليل غير الصناعيِّ ، أي الَّذي لا علاقة له
بصناعة النحو ، وإنَّـما يكون الاحتكام فيه إلى الحال ، أو إلى المنطوق -
وهو الكلام الَّذي يعتمد على المسرح اللغويِّ كما يقول أ.د / أحمد كشك -
ففي قـول المترقِّب لرؤيـة الهـلال : الهلال وربِّ الكعبة ، دليل الحذف
حاليٌّ ، وتقدير المحذوف مبتدأ ( هذا الهلالُ ) تختلف علاقـات نطقه عن
تقديره فعلاً ( رأيت الهلالَ ) ، وكـذلك إذا قلنا لمـن أتى بالماء: أباك ،
أي : اسـق أباك ، فالـدليل على المحذوف في هذه الأسـاليب وأمثالها حاليٌّ ،
أي مُستنبَط من قرينة الحال ، مع أنَّ الحكـم هنا لا يصـفو للحـال فقط ؛
فقد أعاننا على تقدير المحذوف "الاستلزام وسبق الذكر ، وكلاهما من القرائن
اللفظيَّة"، أمَّا الدليل المقاليُّ فهو ما يوجد في كلام منطوق في المقام
نفسه ، كما أسأل شخصًا: مَن عندك ؟ فيقول : محمَّد ، أي : محمَّد عندي .
</blockquote>
<blockquote class="postcontent restore">
حقيقة الحذف :
من المهمِّ قبل الخوض في بيان أحكام الحذف ومسائله أن أبدأ ببيان حقيقته ؛ إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره .
وقد رجعت إلى مظانِّ الحذف في قدر لا بأس به من كتب أصول النحو وفروعه ،
فلم أجد في ما رجعت إليه بيانًا لحقيقة الحذف أو تعريفًا له ، فرجعت إلى
معجم مصطلحات النحو والصرف والعروض فوجدت هذا التعريف :
الحذف : " يُراد به في النحو إسقاط كلمة من بناء الجملة ، وقد تكون هذه
الكلمة ركنًا من أركانها كالمبتدإ أو الخبر أو الفعل أو الفاعل ، وقد تكون
حرفًا ، وقد تُحذف الجملة ... " ، وهذا لا يعدو كونه تعدادًا لأنواع من
الحذف ، ولا يصحُّ أن يكون حدًّا مبيِّنًا للحذف النحويِّ ، فهو أشبه
بتعريف للحذف الصرفيٍّ ؛ إذ يصدق أن نقول : الحذف في الصرف : إسقاط حرف من
بناء الكلمة .
واطَّلعت على رسـالة علميَّة من البحوث الرائدة في الموضوع – وهي رسالة (
الحذف والتقدير في النحو العربي ) لعلي أبي المكارم ، فوجدت تعريف الحـذف
فيها على النحو التالي :
إسقاط لصيغ داخل النصِّ التركيبيِّ في بعض المواقف اللغويَّة ، وهذه الصيغ
يُفترَض وجودها نحويًّا لسلامة التركيب وتطبيقًا للقواعد ، ثمَّ هي موجودة –
أو يمكن أن توجد – في مواقف لغويَّة مختلفة .
وهو اجتهاد مشكور من الباحث ، ولكنَّ أبرز ما يمكن أن يؤخذ على التعريف
قوله : ( وهذه الصيغ يُفترَض وجودها نحويًّا لسـلامة التركيب وتطبيقًا
للقواعد ) ؛ لأنَّ هذا لا يصدق على أيٍّ من نوعي الحذف :
- ففي الحذف الواجب لا يُفترض وجود المحذوف لسلامة التركيب وانضباط القواعد
، بل يكون ذكره خطأً مخلاًّ بسلامة التركيب وخارقًا للقواعد .
- وفي الحذف الجائز لم يدلّ على المحذوف أنَّ غيابه أخلَّ بسلامة التركيب
أو كسر القواعد - فبدهيٌّ أنَّ المحذوف جوازًا يجوز حذفه وذكره من غير أن
يوصـف التركيب بالغلط النحويِّ - وإنَّما دلَّ عليه أنَّه ذُكر في استعمال
آخر ولغرض آخر ؛ فاللغة استعمال قبل أن تكون قواعد .
وإذا كان لي أن أُدلي بدلوي لأقدِّم تعريفًا نحويًّا للحذف فقد راجعت أحوال الحذف وأحكامه وخرجت منها بهذا التعريف :
الحذف الجائز : تعمُّد إسقاط عنصر ( إسناديٍّ أو غيره ) من عناصر بناء
النصِّ ؛ لغرض ، مع سـماح النظام النحويِّ بذكره ، ومع دلالة باقي عناصر
النصِّ عليه ، وإمكان ذكر هذا العنصر في مقام آخر ولغرض آخر .
الحذف الواجب : إسقاط عنصرٍ إسـناديٍّ من نصٍّ لا يسـمح النظام النحويُّ
بذكره فيه ، مع دلالة الأصل التركيبيِّ للنصِّ عليه ، وامتناع ذكره في كلِّ
الأحوال .
قيمة الحذف ومزاياه :
يرتبط الحذف ارتباطًا وثيقًا بمعنى القول ودلالته وقدرته على التأثير ؛ فهو
وسـيلة للإيجاز الَّذي هو أحد مقاصـد العربيَّة ، والحذف في مقامه يهذِّب
الجمل ، ويزيد نصيبها من البلاغة والرونق ، ويقوِّي قدرتها على إيصال
المعنى المراد .
تحت عنوان ( القول في الحذف ) يقول الإمام عبد القـاهر : " هو باب دقيق
المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر ، شبيه بالسـحر ، فإنَّك ترى به ترك
الذكر أفصح من الذكر ، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة ، وتجدك أنطقَ ما
تكون إذا لم تنطق ، وأتمَّ ما تكون بيانًا إذا لم تُبِنْ .
ويذكرعلماء البلاغة للحذف ثلاث مزايا ، هي :
1- إيجاز العبارة .
2- زيادة رونقها وصـيانتها من الثقل والترهُّل الَّذين يحدثهما ذكرُ المعلوم للقرينة .
3- بناؤها على إثارة فكر المتلقِّي وخياله في الاستدلال على جزء المعنى الَّذي لم يُذكر اللفظ الدالُّ عليه .
هذا ما يُذكر مَزِيَّةً عامَّةً للحذف ، ويبقى وراء كلِّ تعبير سرٌّ خاصٌّ به قائم على اختلاف المقامات والأحوال والأغراض .
أغراض الحذف وأدلته :
إذا نظرنا في كتاب سـيبويه وجدناه ينصُّ في مواضع كثيرة على ضرورة الحذف
لأسباب أدخلها البحث الحديث في فنِّ البلاغة ، كالتخفيف والإيجاز والسعة ،
ويبيِّن أنَّ العرب قد جرت عادتها على الحذف ، وحبَّذتْه في غير موضع .
يقول سيبويه : " واعلم أنَّهم ممَّا يحذفون الكلم وإن كان أصله في الكلام
غير ذلك ، ويحذفون ويعوِّضون ، ويستغنون بالشيء عن الشيء الَّذي أصله في
كلامهم أن يُستعمل حتى يصير ساقطًا ... " ، ويقول : " وما حُذِف في الكلام
لكثرة استعمالهم كثير " .
ويقول كمال الدين الأنباري : " والحذف في كلامهم لدلالة الحال وكثرة الاستعمال أكثر من أن يُحصَى " .
وقد تطرَّق النحاة في تصانيفهم إلى ذكر أغراض الحذف ، لكنَّها أغراض خاصَّة
بالمحذوف ، ولذلك فهي متفرِّقة في أبواب النحو بحسب المحذوفات .
شروط الحذف :
يذكر علماء البلاغة أنَّ " الحذف يفتقر إلى أمرين :
أحدهما : قابليَّة المقام ، وهو أن يكون السامع عارفًا به لوجود القرائن .
والثاني : الداعي الموجب لرجحان الحذف على الذكر " .
وقد اهتمَّ النحاة وعلماء البلاغة بدراسة دواعي الحذف واستنباط القرائن
الدالَّة على المحذوف ، وقد أجمل ابن هشام الشروط الَّتي لا يجوز الحذف
بغيرها فذكر ثمانية شروط :
الشرط الأول : وجود دليل للحذف ، ويُفتقَرُ إلى هذا الدليل إذا كان المحذوف :
· جملة بأسرها ، كقولك : زيدًا ، لمن سأل : مَن أضرب ؟
· أو أحد ركنيها ، كما في قوله تعالى : ﴿ قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾
، أي سلامٌ عليكم أنتم قومٌ منكرون ، فحذف خبر الأولى ومبتدأ الثانية .
· أو لفظًا يفيد معنىً فيها هي مبنيَّة عليه ، كما في قوله تعالى :
﴿ تَالله تَفْتَأُ ﴾ ، أي : لا تفتأ .
أمَّا إذا كان المحذوف فضلة فلا يشترط لحذفه وجدان الدليل ، ولكن يُشترط أن لا يضرَّ حذفه بالمعنى ولا بالصناعة النحويَّة .
ويتنوَّع دليل الحذف إلى نوعين :
1- دليل غير صناعيّ : وهو إما حاليّ ، كقولك لمن رفع سوطًا : زيدًا ،
بإضمار ( اضرِب ) ، أو مقاليّ ، كما في قوله تعالى : ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ
اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً ﴾ ، أي : أنزلَ خيرًا .
ويُشترط للدليل اللفظيِّ أن يكون طبق المحذوف .
2- دليل صناعيّ : وهذا لا يُعرف إلا من جهة صناعة النحو ، كما في قراءة من
قرأ : ﴿ لأُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ ، فقد قالوا : إنَّ التقدير :
لأنا أقسم ؛ لأنَّ فعل الحال لا يقع جوابًا للقسم عند البصريِّين .
الشرط الثاني : ألاَّ يكون ما يحذف كالجزء ، فلا يُحذف الفاعل ولا نائبه ولا مشـبهه
( اسم كان أو إحدى أخواتها ) .
الشرط الثالث : ألاَّ يكون مؤكَّدًا ، فلا يصحّ : الَّذي رأيت نفسه زيد ؛
لما يُوقع فيه ذلك من التناقض ، فالتوكيد إسهاب والحذف إيجاز ، ولا يجتمعان
.
الشرط الرابع : ألاَّ يؤدي حذفه إلى اختصار المختصر ، فلا يحذف اسم الفعل دون معموله ؛ لأنَّه اختصار للفعل .
الشرط الخامس : ألاَّ يكون المحذوف عاملاً ضعيفًا ، فلا يحذف الجارُّ
والجازم والناصب للفعل إلا في مواضع قويت فيها الدلالة على المحذوف وكثر
فيها الاستعمال ، ولا يُقاس عليها .
الشرط السادس : ألاَّ يكون المحذوف عوضًا عن شيء .
الشرط السابع : ألاَّ يؤدِّي حذفه إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه .
الشرط الأخير : ألاَّ يؤدِّي الحذف إلى إعمال العامل الضعيف مع إمكان إعمال العامل القويّ .
ويُعتبر دستورًا للدراسة النحويَّة للحذف قول ابن هشام : " الحذف الَّذي
يلزم النحويَّ النظرُ فيه هو ما اقتضته الصناعة ، وذلك بأن يجد خبرًا بدون
مبتدإ أو بالعكس ، أو شرطًا بدون جزاء أو بالعكس ، أو معطوفًا بدون معطوف
عليه ، أو معمولاً بدون عامل ... " .
صور الحذف وأنواعه :
تتعدَّد صور الحذف في النحو العربيِّ ، من حذف علامات الإعراب ، وحذف أجزاء
الكلمات ، وحذف الأدوات ، وحذف أجزاء التراكيب ، وحذف الجمل ، ويتنوَّع
الحذف إلى نوعين :
الحذف الواجب : وهو حذف يوجبه النظام النحويُّ للجملة ، بحيث يكون ذكر
المحذوف خطأً ، ويقع هذا الحذف في العناصر الإسناديَّة – كالمبتدأ في
الجملة الاسميَّة ، والفعل في الجملة الفعليَّة – عدا الفاعل .
الحذف الجائز : وهو حذف يقتضيه الموقف الاسـتعماليُّ ، حيث يكون الذكر غير
ممنوع في الصـناعة لكنَّه يضـرُّ بالمعنى المقصـود من المتكلِّم ، ويقع على
العناصر الإسناديَّة وغيرها .
ويُحاط كلُّ نوع من أنواع الحذف الواجب بقواعد وشروط تنظِّم وقوعه ، فلا
مجال فيه لغير النظام النحويِّ ، أمَّا الحذف الجائز فإنَّ أهم شرط فيه هو
وجود القرينة اللفظيَّة أو المعنويَّة ، وهو ما سمَّاه ابن هشام " دليل
الحذف " ، وجعل أحد نوعيه الدليل غير الصناعيِّ ، أي الَّذي لا علاقة له
بصناعة النحو ، وإنَّـما يكون الاحتكام فيه إلى الحال ، أو إلى المنطوق -
وهو الكلام الَّذي يعتمد على المسرح اللغويِّ كما يقول أ.د / أحمد كشك -
ففي قـول المترقِّب لرؤيـة الهـلال : الهلال وربِّ الكعبة ، دليل الحذف
حاليٌّ ، وتقدير المحذوف مبتدأ ( هذا الهلالُ ) تختلف علاقـات نطقه عن
تقديره فعلاً ( رأيت الهلالَ ) ، وكـذلك إذا قلنا لمـن أتى بالماء: أباك ،
أي : اسـق أباك ، فالـدليل على المحذوف في هذه الأسـاليب وأمثالها حاليٌّ ،
أي مُستنبَط من قرينة الحال ، مع أنَّ الحكـم هنا لا يصـفو للحـال فقط ؛
فقد أعاننا على تقدير المحذوف "الاستلزام وسبق الذكر ، وكلاهما من القرائن
اللفظيَّة"، أمَّا الدليل المقاليُّ فهو ما يوجد في كلام منطوق في المقام
نفسه ، كما أسأل شخصًا: مَن عندك ؟ فيقول : محمَّد ، أي : محمَّد عندي .
</blockquote>