من الحقائق الكونية :الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ
{..... وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (5) سورة الحـج
هذه الحقيقة الكونية جاء ذكرها بهذا النص القرآني الكريم في ختام الآية الخامسة من سورة الحج, وهي سورة مدنية, مجموع آياتها ثمان وسبعون, وهي السورة الوحيدة من سور القرآن الكريم التي جمعت بين سجدتين من سجدات التلاوة, وقد سميت باسم هذه الشعيرة الإسلامية الكبري الحج لورود الإشارة فيها إلي الأمر الإلهي بالأذان في الناس بالحج إلي أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم(عليه السلام).
ويدور محور السورة حول العديد من التشريعات الإسلامية بأحكام الحج, والطعام, والإذن بالقتال والجهاد في سبيل الله دفاعا عن النفس, وعن الدين, وشعائره, ومقدساته, وعن أعراض, وأموال, وممتلكات, وأراضي المسلمين, ودفعا لظلم الظالمين, ولبغي الباغين المتجبرين في الأرض بغير الحق....!!!
ويصحب هذه التكاليف الوعد القاطع من الله( تعالي) بنصر المجاهدين في سبيله وبالتمكين للمؤمنين به الذين ينهضون في غير تردد لرد كل عدوان باغ علي المسلمين أو حتى علي غيرهم من البشر المسالمين..!!! مع تأكيد قوة الله البالغة, وضعف الشركاء المزعومين, والاشارة إلي مصارع الغابرين من الكفار والمشركين والظالمين, وإلي سنن الله في ذلك, وهي سنن لا تتوقف ولا تتبدل ولا تتخلف.
ومن الأمور المسلم بها أن التشريع لم يؤمر به إلا بعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة, ومن هنا كان الاستنتاج الصحيح بأن السورة مدنية.
وعلي الرغم من ذلك فإن سورة الحج قد ابتدأت بالتحذير الإلهي للناس كافة من هول الساعة, وبالتأكيد علي حقيقة البعث, وبالتركيز علي توحيد الله, وإنكار الشرك, وبذكر الدمار الذي لحق بالمكذبين من الأمم السابقة, وتفيض السورة بوصف مشاهد الآخرة, وأهوال البعث والحساب, وجزاء المؤمنين وعقاب الكافرين وهي من قضايا القرآن المكي, وإن كان لا ينفرد بها وحده.
وتكثر السورة من الأدلة الكونية المثبتة لطلاقة القدرة الإلهية في الخلق, وفي الإفناء والبعث, وفي الحساب والجزاء.
وقد استهلت السورة الكريمة بالأمر بتقوى الله, وبالتحذير الشديد من أهوال ما سمته زلزلة الساعة, وفيها يدمر كل شيء في الكون في آخر عمر الدنيا, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي): يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم, يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وتري الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
(الحج:2,1)
وتنتقل السورة بسرعة إلي الحديث عمن يضلهم الشيطان فيجادلون في الله( تعالي) بغير علم, ولا هدي, ولا كتاب منير, أي بالجهل والباطل, وهؤلاء لهم في الدنيا خزي, وفي الآخرة عذاب شديد, لأن مهمة الشيطان في الدنيا هي محاولة إضلال الناس حتى يقود من يطيعه إلي الجحيم...!!!
وتضرب سورة الحج برهانا علي حتمية البعث من حقيقة خلق الإنسان من تراب, مرورا بمراحل الجنين المتعاقبة, حتى يخرج إلي الحياة طفلا ناميا حتى يبلغ أشده فيحيا في هذه الدنيا كما أراد له الله, وليس له من بعد هذه الحياة إلا الموت, طال أجله أم قصر..!!
وشبهت السورة خلق الإنسان بخلق النبات وذلك بإنزال الماء علي الأرض الهامدة فتهتز وتربو إلي أعلي حتي تنشق لتفسح طريقا سهلا للنبتة الطيبة المنبثقة ـ بقدرة الله ـ من خلالها في زوجية بهيجة, وسوف يتم إحياء الموتي بنفس الطريقة التي يحيي بها الله( تعالي) الأرض الهامدة.
وتشير السورة الكريمة إلي ظاهرة من ظواهر النفس الإنسانية مؤداها أن من الناس من يعبد الله( تعالي) طمعا في عظيم عطائه فقط, فإن أصابه خير اطمأن به, وإن أصابته فتنة انقلب علي وجهه فخسر الدنيا والآخرة, وهو الخسران المبين, وحذرت السورة من رجس الوثنية, ومن قول الزور, ومن الشرك بالله, وعرضت لشيء من أوضاع المشركين الذين يعبدون من دون الله( تعالي) شركاء لم ينزل بهم سلطانا ـ والله منزه عن الشريك والشبيه والمنازع ـ وتنكر هذه الشراكة المفتراة, وتؤكد عجز هؤلاء الشركاء عن نفع أو ضر من أشركوا بهم,.... إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب.( الحج:73)
كما تعرض سورة الحج لشيء من ثواب المؤمنين, ولعذاب الكافرين, وللفصل بين أصحاب الملل والنحل المختلفة, وتؤكد أن جميع ما في هذا الوجود يسجد لله( تعالي) في عبودية كاملة, وأن هذا الخضوع بالعبودية لله الخالق هو قمة التكريم للمخلوقات, ومن يعرض عن ذلك الخضوع لله من أصحاب الإرادة الحرة فليس له من مكرم, وأشارت سورة الحج إلي أن من ألوان الكفر بالله الصد عن سبيله..., وعن المسجد الحرام, والإلحاد والظلم فيه, وأشارت إلي هداية إبراهيم( عليه السلام) إلي مكان البيت الحرام, وأمره برفع قواعده, وإعادة بنائه هو وولده إسماعيل( عليه السلام), وتطهيره للطائفين والقائمين والركع السجود, وشرعت لفريضة الحج وما فيها من تعظيم لشعائر الله, مما يؤكد أن هذا النسك الإسلامي قد شرع للأمم من قبل بعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) حتى يشكروا الله( تعالي) علي فضله.
وتكرر سورة الحج تأكيد وحدانية الله, وطلاقة قدرته, والأمر بالخضوع الكامل لجلاله بالإسلام له, وتبشر الذين تخشع قلوبهم بذكره والصابرين علي قضائه والذين يقيمون الصلاة, وينفقون مما رزقهم الله بخيري الدنيا والآخرة, وتؤكد دفاع الله( تعالي) عن المؤمنين به, وأنه( تعالي) لا يحب كل خوان كفور.
ويتكرر الإذن بالقتال الدفاعي للذين ظلموا من الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله( كإخواننا أهل فلسطين المظلومين في زماننا الذين أخرجهم حثالات الأمم ونفايات الشعوب من المستعمرين الغربيين الصهاينة من أرضهم وممتلكاتهم ومساكنهم) وتؤكد السورة الكريمة أن الله( تعالي) علي نصرهم لقدير, وتشجع علي مناصرتهم بالتأكيد علي أن الله( سبحانه) ناصر من ينصره, وتتحدث السورة الكريمة في أكثر من موضع منها عن جزاء المهاجرين في سبيل الله, والشهداء في ميادين الجهاد من أجل إعلاء دينه وإقامة عدله في الأرض, وتكرر تعهد الله( تعالي) بنصرة المظلومين, وتقارن بين جزاء المؤمنين بآيات الله وعقاب المكذبين بها والساعين في محاولة يائسة لإطفاء نور الله في الأرض بإلقائهم في جهنم وبئس المصير. وتصف المؤمنين بالله بأنهم إن مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة, وآتوا الزكاة, وأمروا بالمعروف, ونهوا عن المنكر, وأن لله عاقبة الأمور.
وتخاطب السورة الكريمة خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) مواسية إياه: بأن تكذيب الكافرين لنبوته ولرسالته ليس أمرا جديدا في طبائع البشر, فقد كذبت الأمم الكافرة من قبل كل أنبياء الله ورسله: قوم نوح, وعاد, وثمود, وقوم ابراهيم, وقوم لوط, وأصحاب مدين, وقوم موسي وغيرهم, وكان عقاب المكذبين الدمار الذي تشهد به آثارهم من القصور المهجورة والآبار المعطلة, وتتساءل السورة الكريمة: أفلم يتحرك الناس في الأرض فيدركوا هذه الحقائق حتى تكون عبرة لهم؟ وتؤكد أنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور...!!
ويتعجب سياق السورة الكريمة من استعجال الكافرين لعذاب الله, وتؤكد أن الله( تعالي) لن يخلف وعده, وإن استبعد الكافرون ذلك لطول آماد الله فاليوم عنده( سبحانه) بألف سنة ممايعد أهل الأرض. وتأمر السورة خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) أن يبلغ الناس كافة بأنه نذير من الله مبين...