كيف يفعل من أصابه همّ أو غمّ ؟ ـ لفضيلة الأستاذ
الدكتور محمد راتب النابلسي .
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة
والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم
إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
عبد القهر و عبد الشكر
:
أيها الأخوة الكرام ، مع فائدة جديدة من فوائد كتاب الفوائد القيم لابن
القيم رحمه الله تعالى .
هذه الفائدة صيغت على شكل سؤال كيف يفعل من أصابه هم أو غم
؟
(( ما أصاب عبداً هم ولا
حزن,
فقال اللهم إني عبدك ، ابن
عبدك,
ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماض فيّ حكمك , عدل فيّ قضاؤك ,
أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك, أو أنزلته في
كتابك ، أو علّمته أحداً من خلقك, أن تجعل القرآن ربيع
قلبي,
ونور صدري, وجلاء حزني , وذهاب همّي وغمّي
, إلا أذهب الله همّه وغمّه, وأبدله مكانه فرحا ، قالوا يا
رسول الله أفلا نتعلّمهن؟ قال : بلى, ينبغي لمن سمعهن أن
يتعلّمهن)) .
[رواه أحمد وصحيح أبي حاتم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ]
أيها الأخوة ، (( اللهم إني
عبدك ، وابن عبدك)) . هناك عبد القهر ، وهناك عبد الشكر ، وشتان بين العبدين ،
عبد القهر بحكم أنه في قبضة الله ، حياته بيد الله ، رزقه بيد الله، مرضه بيد الله
، صحته بيد الله ، زواجه بيد الله ، استمرار حياته بيد الله ، كن فيكون ، زل فيزول
، فكل إنسان مسلم أو غير مسلم ، مؤمن أو غير مؤمن ، مستقيم أو غير مستقيم ، موحد أو
غير موحد أو ملحد في قبضة الله ، لأن كل إنسان في قبضة
الله بأي ثانية ينهي حياته ، يقطع رزقه ، يصيبه بأمراض وبيلة ، إذاً هو في قبضة
الله هذه عبودية ولكنها عبودية القهر ، قال تعالى :
﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾
.
( سورة فصلت
)
لكن الإنسان إذا عرف الله
اختياراً ، بمبادرة منه محبة ، شوقاً ، واستقام على أمره ، وأقبل عليه ، وتقرب
إليه بالأعمال الصالحة ، هذا عبد آخر ، هذا عبد الشكر
:
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانٌ ﴾ .
( سورة الحجر الآية : 42
)
عبد الشكر يجمع على عباد ، بينما
عبد القهر يجمع على عبيد :
﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾
.
( سورة فصلت )
أما :
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانٌ ﴾ .
( سورة الحجر الآية : 42
)
من علامات أنك عبد لله
أن تلتزم طاعته و تخضع له و تنيب إليه و تمتثل أمره :
أيها الأخوة ، النقطة الثانية :
((اللهم إني
عبدك ، وابن عبدك, ابن
أمتك,
ناصيتي بيدك)) .
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾
.
( سورة هود الآية : 123
)
أنت في قبضة الله ،
((ناصيتي بيدك)) ،ضربات القلب بيدك ، الشرايين
بيدك ، انسداد الشرايين بيدك ، سيولة الدم بيدك ، الخثرة بالدماغ بيدك ،
((ناصيتي بيدك)) .رزقيبيدك ، صحتي بيدك ، زوجتي بيدك ، أولادي بيدك
، من حولي بيدك ، من فوقي بيدك ، من تحتي بيدك ، الأقوياء بيدك ، الطغاة بيدك ،
المؤمنون بيدك ، ((ناصيتي بيدك)) .
هذا هو التوحيد ، أن ترى أن كل أمرك عائد إلى الله ، التوحيد علاقتك مع جهة واحدة ،
أروع ما في هذا الدين أن علاقة المؤمن مع جهة واحدة هي الله ، يرضي الله فإذا أرضى
الله أرضى الله عنه كل الخلائق ، وإذا أحب الله ألقى محبته في قلوب الخلائق ، وإذا
هاب من الله ألقى هيبته في قلوب الخلائق ، وإذا اتصل بالله جعل الله علاقته بمن
حوله من أعلى ما يكون ، هذا التوحيد ، الدين توحيد .
فلذلك من علامات أنك عبد لله أنك
تلتزم طاعته ، وتلتزم الخضوع له ، والإنابة إليه ، وامتثال أمره ، ودوام الافتقار
إليه ، واللجوء إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، والعياذ به وألا يتعلق قلبك
بغيره ، بل تحبه ، وتخاف منه ، وترجوه ، وتعظمه ، هذا معنى العبودية لله عز وجل هذا
معنى عبد الشكر .
من معاني العبودية
لله :
1 ـ أن
الأمر كله لله و ليس لك منه شيء
:
أيضاً أنا يا رب عبدك من جميع
الوجوه ، والإنسان المؤمن عبد لله صغيراً كان أم كبيراً ، حياً أو ميتاً ، مطيعاً
أو عاصياً ، معافى أو مبتلىً ، عبد لله بقلبه ، بجوارحه ، بلسانه، من معاني
العبودية لله ليس لك من شيء ، الأمر كله لله :
﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
( سورة الأنعام
)
لو تعمقنا كثيراً في مفهوم
العبودية النبي عليه الصلاة
والسلام في أعلى درجة
وصل إليها بشر عند سدرة المنتهى ،
قال تعالى :
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾
.
( سورة النجم
)
العلاقة عجيبة كلما خضعت لله رفعك
الله ، كلما تذللت أمامه في مناجاتك أعلى قدرك ، ورفع ذكرك ، وثبط عدوك ، ووفقك
ونصرك .
2 ـ أن كل ما تملك لله
:
من معاني العبودية أن كل ما تملك
لله ، مرة إنسان سأل عالماً قال له : كم الزكاة سيدي ؟ قال له : عندكم أم عندنا ؟ قال له : عجيب
! ما عندنا وما عندكم ؟ قال له : عندكم ربع العشر ، أما عندنا العبد وماله لسيده . وهذا معنى:
﴿ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ .
( سورة الأنعام
)
المؤمنون الصادقون السابقون
أوقاتهم لله ، قدراتهم لله ، خصائصهم لله ، طلاقة ألسنتهم لله ، حكمتهم
لله ، رحمتهم من أجل
إكرام عباد الله .
3 ـ
أن
كل ما أنت فيه من إنعام الله عليه :
من معاني العبودية لله أنت الذي
مننت عليّ بكل ما أنا فيه ، كلك حسنة من حسنات الله ، جعلك من أب أو أم من نعمة
الله الكبرى ، أعطاك سمعاً أو
بصراً من نعمة الله الكبرى ، أعطاك عقلاً ، أكرمك بزوجة تسرك إذ نظرت إليها ، تحفظك
إذا غبت عنها ، تطيعك إذ أمرتها ، أعطاك أولاداً يملؤون البيت فرحة ، أي أنت مننت
علي بكل ما أنا فيه ، هذا معنى العبودية ، هذا ما يقول عنه علماء القلوب الفناء ،
أي فني في محبة الله ، كل ما أنا فيه يا رب من إنعامك .
4 ـ
عدم التصرف بشي إلا بأمر الله
تعالى :
شيء آخر من معاني العبودية أنني
لا أتصرف يا رب فيما خولتني من مال ونفس إلا بأمرك ، والعبد الصادق ، الأمين ،
المخلص ، لا يتصرف إلا بإذن سيده ، وإني لا أملك يا رب لنفسي نفعاً يا رب ولا ضراً
، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، هذا من معاني العبودية لله عز وجل
.
(( اللهم
إني عبدك ، وابن
عبدك,
ابن أمتك, ناصيتي بيدك)) . من منا يملك حواسه ؟ بأي لحظة يفقد أحد أعضاءه ، بأي لحظة
قد يفقد عقله ، الأب المحترم يسعى من حوله أن يضعوه في مستشفى الأمراض العقلية ،
عقلك بيده ، ((
ناصيتي بيدك
)) . أنت المتصرف كيفما تشاء ، أما أنا لا أملك
لنفسي نفعاً ولا ضراً .
التوكل على الله أساس
الدين :
أيها الأخوة ، كما قال
النبي عليه الصلاة
والسلام :
(( قلوب العباد بين أصبعين
من أصابع الرحمن))
.
[ مسلم عن
عائشة]
أي هذا الذي أمامك قوي هو بيد الله فإذا كنت مع الله ألقى
هيبة عليك ، هذا الذي يريد أن ينال منك بيد الله لا يستطيع أن يتحرك إلا بإذن الله
عز وجل ، فلذلك حتى الأقوياء الطغاة موتهم وحياتهم بيد الله عز وجل ، هذا الذي قاله
سيدنا هود :
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا
تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ
دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (56)﴾ .
( سورة هود )
الدين أن ترى أن يد
الله تعمل وحدها وأنه لن يقع شيء في الكون إلا إذا سمح الله له :
أيها الأخوة الكرام ،
الدين توحيد ، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، الدين ألا ترى مع الله
أحداً ، الدين أن ترى أن يد الله تعمل وحدها ، الدين أن ترى أنه لن يقع شيء في
الكون إلا إذا سمح الله له أن يقع ، كل شيء وقع أراده الله ، بمعنى سمح به ، وكل شيء أراده
الله وقع ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير
المطلق ، متى شهد العبد أن ناصيته
ونواصي العباد بيد الله وحده يصرفها كيف يشاء عندئذ لن يخاف أحداً إلا الله ،
الموحد قوي الشخصية ، لا يتضعضع ، لا يتذلل ، لا ينبطح ، لا ينافق ، لا تضعف شخصيته
، لأنه مع الله عز وجل .
اجعل
لربك كل عزك يستقر ويثبت فإذا
اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
***
متى شهد العبد أن ناصيته بيد الله
وأن نواصي العباد بيد الله أيضاً يصرفها كيف يشاء لم يخفهم ، ولم يعلق أمله عليهم ،
ولم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين ، المتصرف فيهم هو الله ، والله
مدبر شؤونهم ، فمن شهد هذا المشهد صار فقره إلى ربه لازماً له ، كل من في الكون بيد
الله ، أنت إذاً افتقر إلى الله ، لذلك الصحابة الكرام في بدر فوضوا أمرهم إلى الله
، وافتقروا إليه ، فانتصروا ، قالوا الله ، فالله تولاهم ، هم هم ومعهم سيد الخلق
في حنين قالوا : نحن كثرة لن نغلب من قلة فتخلى الله عنهم :
﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ
ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ (26) ﴾ .
( سورة التوبة
)
ارغب فيما
عند الله يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس :
أيها الأخوة ، من شهد هذه المعاني
لم يفتقر إلى الناس ، ولم يعلق أمله عليهم ، ولم يرجو ما عندهم ، لذلك ارغب فيما
عند الله يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس.
الله يغضب إن تركت
سؤاله وبني آدم حين يُسأل يغضب
* * *
وازهد فيما عند الناس يحبك الناس
، ارجُ ما عند الله يحبك الله ، لذلك سيدنا هود قال :
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا
تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ
دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (56)﴾ .
( سورة هود )
عظمة الله عز وجل أنه
قوي وعلى صراط مستقيم و له الملك و الحمد :
بالمناسبة كلمة على إذا جاءت مع
لفظ الجلالة تعني أن الله ألزم ذاته العلية بما جاء في الآية : ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ﴾ . أي أن الله جل جلاله ألزم ذاته العلية بأن يكون على صراط
مستقيم بالاستقامة :
﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾
.
( سورة النحل الآية : 9
)
ألزم الله ذاته بهداية الخلق
:
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً
لَأَسْمَعَهُمْ ﴾ .
( سورة الأنفال الآية : 23
)
(( ماض فيّ حكمك , عدل فيّ
قضاؤك)) . أي إذا حكم الله على عبد :
﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا
مَرَدَّ لَهُ ﴾ .
( سورة الرعد الآية : 11
)
(( يا عبادي ! لو أنَّ
أوَّلكم وآخرَكم ، وإنسَكم وجِنَّكم ، قاموا في صعيد واحد فسألوني ،
فأعطيتُ كُلَّ إنسان مسألتَهُ ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يَنْقُص المِخْيَطُ
إذا أُدِخلَ البحرَ ذلك لأن عطائي كلام ، كن فيكون ، وأخذي كلام ، يا عبادي ، فمن
وَجَدَ خيراً فليَحْمَدِ الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا
نَفْسَهُ )) .
[ مسلم والترمذي عن أبي ذر
الغفاري ]
أيها الأخوة ، ﴿
إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ﴾ . مع أنه قوي أحياناً القوي ليس مستقيماً ، القوي لا يخشى
أحداً ، لا يعلق أهمية على أحد لأنه قوي ، لكن عظمة الله عز وجل أنه
قوي وعلى صراط مستقيم ، له الملك وله الحمد .
أيها الأخوة ، هو على صراط مستقيم
في أقواله ، في أفعاله ، في قضائه ، في قدره ، في أمره ، في نهيه ، في ثوابه ، في
عقابه ، خبره صادق ، قضاؤه عدل ، أمره كله حكيم .
أيها الأخوة ، كما قالوا :
الشريعة عدل كلها ، مصلحة كلها ،
رحمة كلها ، حكمة كلها ،
أية قضية خرجت من العدل إلى الجور
، ومن المصلحة إلى المفسدة ، ومن الحكمة إلى خلافها ، من الرحمة إلى القسوة فليست
من الشريعة ، ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل .
الحياة الدنيا فيها
متاعب وأحزان وهموم والمؤمن إذا أصابه همّ أو حزن عليه بهذا الدعاء
:
أيها الأخوة ، ((ماض فيّ حكمك , عدل فيّ
قضاؤك)) .هذا
الحديث الرائع لمن أصابه غم أو هم ، أعيد عليكم نص الحديث :
(( ما أصاب عبداً هم ولا
حزن,
فقال اللهم إني عبدك ، ابن
عبدك,
ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماض فيّ حكمك , عدل فيّ قضاؤك ,
أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك, أو أنزلته في
كتابك ، أو علّمته أحداً من خلقك, أن تجعل القرآن ربيع
قلبي,
ونور صدري, وجلاء حزني , وذهاب همّي وغمّي
, إلا أذهب الله همّه وغمّه, وأبدله مكانه
فرحاً)) .
[رواه أحمد وصحيح أبي حاتم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ]
فلذلك طبيعة الحياة الدنيا فيها
متاعب ، فيها أحزان ، فيها هموم ، فالمؤمن إذا أصابه هم أو حزن عليه بهذا الدعاء
الذي علمنا النبي عليه الصلاة والسلام إياه .
والحمد لله رب العالمين
الدكتور محمد راتب النابلسي .
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة
والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم
إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
عبد القهر و عبد الشكر
:
أيها الأخوة الكرام ، مع فائدة جديدة من فوائد كتاب الفوائد القيم لابن
القيم رحمه الله تعالى .
هذه الفائدة صيغت على شكل سؤال كيف يفعل من أصابه هم أو غم
؟
(( ما أصاب عبداً هم ولا
حزن,
فقال اللهم إني عبدك ، ابن
عبدك,
ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماض فيّ حكمك , عدل فيّ قضاؤك ,
أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك, أو أنزلته في
كتابك ، أو علّمته أحداً من خلقك, أن تجعل القرآن ربيع
قلبي,
ونور صدري, وجلاء حزني , وذهاب همّي وغمّي
, إلا أذهب الله همّه وغمّه, وأبدله مكانه فرحا ، قالوا يا
رسول الله أفلا نتعلّمهن؟ قال : بلى, ينبغي لمن سمعهن أن
يتعلّمهن)) .
[رواه أحمد وصحيح أبي حاتم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ]
أيها الأخوة ، (( اللهم إني
عبدك ، وابن عبدك)) . هناك عبد القهر ، وهناك عبد الشكر ، وشتان بين العبدين ،
عبد القهر بحكم أنه في قبضة الله ، حياته بيد الله ، رزقه بيد الله، مرضه بيد الله
، صحته بيد الله ، زواجه بيد الله ، استمرار حياته بيد الله ، كن فيكون ، زل فيزول
، فكل إنسان مسلم أو غير مسلم ، مؤمن أو غير مؤمن ، مستقيم أو غير مستقيم ، موحد أو
غير موحد أو ملحد في قبضة الله ، لأن كل إنسان في قبضة
الله بأي ثانية ينهي حياته ، يقطع رزقه ، يصيبه بأمراض وبيلة ، إذاً هو في قبضة
الله هذه عبودية ولكنها عبودية القهر ، قال تعالى :
﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾
.
( سورة فصلت
)
لكن الإنسان إذا عرف الله
اختياراً ، بمبادرة منه محبة ، شوقاً ، واستقام على أمره ، وأقبل عليه ، وتقرب
إليه بالأعمال الصالحة ، هذا عبد آخر ، هذا عبد الشكر
:
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانٌ ﴾ .
( سورة الحجر الآية : 42
)
عبد الشكر يجمع على عباد ، بينما
عبد القهر يجمع على عبيد :
﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾
.
( سورة فصلت )
أما :
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانٌ ﴾ .
( سورة الحجر الآية : 42
)
من علامات أنك عبد لله
أن تلتزم طاعته و تخضع له و تنيب إليه و تمتثل أمره :
أيها الأخوة ، النقطة الثانية :
((اللهم إني
عبدك ، وابن عبدك, ابن
أمتك,
ناصيتي بيدك)) .
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾
.
( سورة هود الآية : 123
)
أنت في قبضة الله ،
((ناصيتي بيدك)) ،ضربات القلب بيدك ، الشرايين
بيدك ، انسداد الشرايين بيدك ، سيولة الدم بيدك ، الخثرة بالدماغ بيدك ،
((ناصيتي بيدك)) .رزقيبيدك ، صحتي بيدك ، زوجتي بيدك ، أولادي بيدك
، من حولي بيدك ، من فوقي بيدك ، من تحتي بيدك ، الأقوياء بيدك ، الطغاة بيدك ،
المؤمنون بيدك ، ((ناصيتي بيدك)) .
هذا هو التوحيد ، أن ترى أن كل أمرك عائد إلى الله ، التوحيد علاقتك مع جهة واحدة ،
أروع ما في هذا الدين أن علاقة المؤمن مع جهة واحدة هي الله ، يرضي الله فإذا أرضى
الله أرضى الله عنه كل الخلائق ، وإذا أحب الله ألقى محبته في قلوب الخلائق ، وإذا
هاب من الله ألقى هيبته في قلوب الخلائق ، وإذا اتصل بالله جعل الله علاقته بمن
حوله من أعلى ما يكون ، هذا التوحيد ، الدين توحيد .
فلذلك من علامات أنك عبد لله أنك
تلتزم طاعته ، وتلتزم الخضوع له ، والإنابة إليه ، وامتثال أمره ، ودوام الافتقار
إليه ، واللجوء إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، والعياذ به وألا يتعلق قلبك
بغيره ، بل تحبه ، وتخاف منه ، وترجوه ، وتعظمه ، هذا معنى العبودية لله عز وجل هذا
معنى عبد الشكر .
من معاني العبودية
لله :
1 ـ أن
الأمر كله لله و ليس لك منه شيء
:
أيضاً أنا يا رب عبدك من جميع
الوجوه ، والإنسان المؤمن عبد لله صغيراً كان أم كبيراً ، حياً أو ميتاً ، مطيعاً
أو عاصياً ، معافى أو مبتلىً ، عبد لله بقلبه ، بجوارحه ، بلسانه، من معاني
العبودية لله ليس لك من شيء ، الأمر كله لله :
﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
( سورة الأنعام
)
لو تعمقنا كثيراً في مفهوم
العبودية النبي عليه الصلاة
والسلام في أعلى درجة
وصل إليها بشر عند سدرة المنتهى ،
قال تعالى :
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾
.
( سورة النجم
)
العلاقة عجيبة كلما خضعت لله رفعك
الله ، كلما تذللت أمامه في مناجاتك أعلى قدرك ، ورفع ذكرك ، وثبط عدوك ، ووفقك
ونصرك .
2 ـ أن كل ما تملك لله
:
من معاني العبودية أن كل ما تملك
لله ، مرة إنسان سأل عالماً قال له : كم الزكاة سيدي ؟ قال له : عندكم أم عندنا ؟ قال له : عجيب
! ما عندنا وما عندكم ؟ قال له : عندكم ربع العشر ، أما عندنا العبد وماله لسيده . وهذا معنى:
﴿ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ .
( سورة الأنعام
)
المؤمنون الصادقون السابقون
أوقاتهم لله ، قدراتهم لله ، خصائصهم لله ، طلاقة ألسنتهم لله ، حكمتهم
لله ، رحمتهم من أجل
إكرام عباد الله .
3 ـ
أن
كل ما أنت فيه من إنعام الله عليه :
من معاني العبودية لله أنت الذي
مننت عليّ بكل ما أنا فيه ، كلك حسنة من حسنات الله ، جعلك من أب أو أم من نعمة
الله الكبرى ، أعطاك سمعاً أو
بصراً من نعمة الله الكبرى ، أعطاك عقلاً ، أكرمك بزوجة تسرك إذ نظرت إليها ، تحفظك
إذا غبت عنها ، تطيعك إذ أمرتها ، أعطاك أولاداً يملؤون البيت فرحة ، أي أنت مننت
علي بكل ما أنا فيه ، هذا معنى العبودية ، هذا ما يقول عنه علماء القلوب الفناء ،
أي فني في محبة الله ، كل ما أنا فيه يا رب من إنعامك .
4 ـ
عدم التصرف بشي إلا بأمر الله
تعالى :
شيء آخر من معاني العبودية أنني
لا أتصرف يا رب فيما خولتني من مال ونفس إلا بأمرك ، والعبد الصادق ، الأمين ،
المخلص ، لا يتصرف إلا بإذن سيده ، وإني لا أملك يا رب لنفسي نفعاً يا رب ولا ضراً
، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، هذا من معاني العبودية لله عز وجل
.
(( اللهم
إني عبدك ، وابن
عبدك,
ابن أمتك, ناصيتي بيدك)) . من منا يملك حواسه ؟ بأي لحظة يفقد أحد أعضاءه ، بأي لحظة
قد يفقد عقله ، الأب المحترم يسعى من حوله أن يضعوه في مستشفى الأمراض العقلية ،
عقلك بيده ، ((
ناصيتي بيدك
)) . أنت المتصرف كيفما تشاء ، أما أنا لا أملك
لنفسي نفعاً ولا ضراً .
التوكل على الله أساس
الدين :
أيها الأخوة ، كما قال
النبي عليه الصلاة
والسلام :
(( قلوب العباد بين أصبعين
من أصابع الرحمن))
.
[ مسلم عن
عائشة]
أي هذا الذي أمامك قوي هو بيد الله فإذا كنت مع الله ألقى
هيبة عليك ، هذا الذي يريد أن ينال منك بيد الله لا يستطيع أن يتحرك إلا بإذن الله
عز وجل ، فلذلك حتى الأقوياء الطغاة موتهم وحياتهم بيد الله عز وجل ، هذا الذي قاله
سيدنا هود :
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا
تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ
دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (56)﴾ .
( سورة هود )
الدين أن ترى أن يد
الله تعمل وحدها وأنه لن يقع شيء في الكون إلا إذا سمح الله له :
أيها الأخوة الكرام ،
الدين توحيد ، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، الدين ألا ترى مع الله
أحداً ، الدين أن ترى أن يد الله تعمل وحدها ، الدين أن ترى أنه لن يقع شيء في
الكون إلا إذا سمح الله له أن يقع ، كل شيء وقع أراده الله ، بمعنى سمح به ، وكل شيء أراده
الله وقع ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير
المطلق ، متى شهد العبد أن ناصيته
ونواصي العباد بيد الله وحده يصرفها كيف يشاء عندئذ لن يخاف أحداً إلا الله ،
الموحد قوي الشخصية ، لا يتضعضع ، لا يتذلل ، لا ينبطح ، لا ينافق ، لا تضعف شخصيته
، لأنه مع الله عز وجل .
اجعل
لربك كل عزك يستقر ويثبت فإذا
اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
***
متى شهد العبد أن ناصيته بيد الله
وأن نواصي العباد بيد الله أيضاً يصرفها كيف يشاء لم يخفهم ، ولم يعلق أمله عليهم ،
ولم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين ، المتصرف فيهم هو الله ، والله
مدبر شؤونهم ، فمن شهد هذا المشهد صار فقره إلى ربه لازماً له ، كل من في الكون بيد
الله ، أنت إذاً افتقر إلى الله ، لذلك الصحابة الكرام في بدر فوضوا أمرهم إلى الله
، وافتقروا إليه ، فانتصروا ، قالوا الله ، فالله تولاهم ، هم هم ومعهم سيد الخلق
في حنين قالوا : نحن كثرة لن نغلب من قلة فتخلى الله عنهم :
﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ
ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ (26) ﴾ .
( سورة التوبة
)
ارغب فيما
عند الله يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس :
أيها الأخوة ، من شهد هذه المعاني
لم يفتقر إلى الناس ، ولم يعلق أمله عليهم ، ولم يرجو ما عندهم ، لذلك ارغب فيما
عند الله يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس.
الله يغضب إن تركت
سؤاله وبني آدم حين يُسأل يغضب
* * *
وازهد فيما عند الناس يحبك الناس
، ارجُ ما عند الله يحبك الله ، لذلك سيدنا هود قال :
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا
تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ
دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (56)﴾ .
( سورة هود )
عظمة الله عز وجل أنه
قوي وعلى صراط مستقيم و له الملك و الحمد :
بالمناسبة كلمة على إذا جاءت مع
لفظ الجلالة تعني أن الله ألزم ذاته العلية بما جاء في الآية : ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ﴾ . أي أن الله جل جلاله ألزم ذاته العلية بأن يكون على صراط
مستقيم بالاستقامة :
﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾
.
( سورة النحل الآية : 9
)
ألزم الله ذاته بهداية الخلق
:
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً
لَأَسْمَعَهُمْ ﴾ .
( سورة الأنفال الآية : 23
)
(( ماض فيّ حكمك , عدل فيّ
قضاؤك)) . أي إذا حكم الله على عبد :
﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا
مَرَدَّ لَهُ ﴾ .
( سورة الرعد الآية : 11
)
(( يا عبادي ! لو أنَّ
أوَّلكم وآخرَكم ، وإنسَكم وجِنَّكم ، قاموا في صعيد واحد فسألوني ،
فأعطيتُ كُلَّ إنسان مسألتَهُ ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يَنْقُص المِخْيَطُ
إذا أُدِخلَ البحرَ ذلك لأن عطائي كلام ، كن فيكون ، وأخذي كلام ، يا عبادي ، فمن
وَجَدَ خيراً فليَحْمَدِ الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا
نَفْسَهُ )) .
[ مسلم والترمذي عن أبي ذر
الغفاري ]
أيها الأخوة ، ﴿
إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ﴾ . مع أنه قوي أحياناً القوي ليس مستقيماً ، القوي لا يخشى
أحداً ، لا يعلق أهمية على أحد لأنه قوي ، لكن عظمة الله عز وجل أنه
قوي وعلى صراط مستقيم ، له الملك وله الحمد .
أيها الأخوة ، هو على صراط مستقيم
في أقواله ، في أفعاله ، في قضائه ، في قدره ، في أمره ، في نهيه ، في ثوابه ، في
عقابه ، خبره صادق ، قضاؤه عدل ، أمره كله حكيم .
أيها الأخوة ، كما قالوا :
الشريعة عدل كلها ، مصلحة كلها ،
رحمة كلها ، حكمة كلها ،
أية قضية خرجت من العدل إلى الجور
، ومن المصلحة إلى المفسدة ، ومن الحكمة إلى خلافها ، من الرحمة إلى القسوة فليست
من الشريعة ، ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل .
الحياة الدنيا فيها
متاعب وأحزان وهموم والمؤمن إذا أصابه همّ أو حزن عليه بهذا الدعاء
:
أيها الأخوة ، ((ماض فيّ حكمك , عدل فيّ
قضاؤك)) .هذا
الحديث الرائع لمن أصابه غم أو هم ، أعيد عليكم نص الحديث :
(( ما أصاب عبداً هم ولا
حزن,
فقال اللهم إني عبدك ، ابن
عبدك,
ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماض فيّ حكمك , عدل فيّ قضاؤك ,
أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك, أو أنزلته في
كتابك ، أو علّمته أحداً من خلقك, أن تجعل القرآن ربيع
قلبي,
ونور صدري, وجلاء حزني , وذهاب همّي وغمّي
, إلا أذهب الله همّه وغمّه, وأبدله مكانه
فرحاً)) .
[رواه أحمد وصحيح أبي حاتم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ]
فلذلك طبيعة الحياة الدنيا فيها
متاعب ، فيها أحزان ، فيها هموم ، فالمؤمن إذا أصابه هم أو حزن عليه بهذا الدعاء
الذي علمنا النبي عليه الصلاة والسلام إياه .
والحمد لله رب العالمين