من هم أصحاب الهمم العالية؟
إنَّ معالي الأمور لا يبلغها إلَّا أصحاب الهمم العالية والعزائم القوية، فالجنة محفوفة بالمكاره، قال ابن القيم -رحمه الله-: "علو الهمة أن لا تقف دون الله، ولا تتعوَّض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلًا منه، وأعلى الناس همة وأرفعهم قدرًا من لذتهم في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس : 58]" ا.هـ كلامه -رحمه الله-.
ولله درُّ الهمم كما قال ابن القيم: "ما أعجب شأنها، وأشدَّ تفاوتها! فهِمَّة متعلقة بالعرش، وهمة حائمة حول الأنتان والحُش".
ولقد وُجِد في جيل الصحابة من كانت همته عالية ونشاطه دائمًا، فدعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى التقليل من هذا النشاط؛ ليحقِّقوا مستوى القصد والاعتدال والتوازن قائلًا: (اكلَفُوا من العمل ما تطيقون)[1].
ولا غرابة إخوة الإسلام، فقد ربَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على علو الهِمَّة، وأوصاهم بالتسابق في المعالي، ها هو يستنهض عزائم الرجال، ويبعث الهمم من مرقدها، لتصل إلى أقصى ما تستطيع، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز)[2]، ويقول أيضًا: (إنَّ قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة؛ فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها؛ فليفعل)[3].
غذَّى فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الهمة العالية حتى في الدعاء، فإذا أراد أحدهم أن يسأل ربه الجنة؛ فلا أقلَّ من سؤال الله الفردوس أفضل موقع فيها، قال -صلى الله عليه وسلم-: (إذا سألتم الله؛ فاسألوه الفردوس)[4].
ومن نظر في النتاج الضخم الذي خلَّفه علماؤنا الأجلاء من العلوم الغزيرة والمؤلفات الكبيرة تعتريه الدهشة من هذه الهمم العالية والعزائم القوية، فهذا الطبري -رحمه الله- مكث أربعين سنة يكتب في كلِّ يوم منها أربعين ورقة في التاريخ.
وابن الجوزي -رحمه الله- يتحدَّث عن نفسه، ويصف همته العالية قائلًا: نظرت إلى علو الهمة، فرأيتها عجبًا؛ وذلك أنَّني أروم نيل كلِّ العلوم، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه، وأروم نهاية العمل بالعلم مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق، وأروم الغنى عن الخلق، والاشتغال بالعلم مانع من الكسب، وها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة ا.هـ -رحمه الله-
صاحب الهمة العالية يتطلَّع إلى جنة وارفة الظلال، ويأمُل في قبر يكون روضة من رياض الجنان، لذا فهو في عبادة لا تنقطع، صلاته خاشعة مع قراءة للقرآن دائمة، وعمل للآخرة لا يتوانى، يستعين بالله ولا يعجز، الهم الأكبر لأصحاب الهمم هم الآخرة، أما الدنيا؛ فقد استصغروا متاعها، واحتقروا لذائذها، وترفَّعوا عن الاستغراق فيها، فتحرُّروا من قيودها وهمومها، قال -صلى الله عليه وسلم-: (من كانت الآخرة همَّه؛ جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق شمله، ولم يأته من الدنيا إلَّا ما قُدِّر له)، ولذا يقول الحسن -رحمه الله-: "من نافسك في دينك؛ فنافسه ومن نافسك في دنياه؛ فألقها في نحره".
أصحاب الهمم يترفَّعون عن سفساف الأمور وإضاعة الأوقات: جِدٌّ في السلوك، نشاط في العمل، لا يعرف التراخي والكسل، هذا الإمام ابن عقيل -رحمه الله- يقول: "إنَّه لا يحلُّ لي أن أضيِّع ساعة من عمري، حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة؛ أعملت فكري في حال راحتي".
ومن العجب أن ترى غير المسلمين يستثمرون الأوقات ويملئون الساعات بكل عمل جاد، فصارت لهم السيادة المادية، بينما بعض المسلمين نهارهم نوم، وليلهم لهو، حياتهم لغو وسهو، فخارت عزائمهم وثقلت إلى الأرض، ومن سنن الحياة أن الدنيا لا تعطي حصادها إلَّا لمن يزرعها، ولا جناها إلَّا لمن يغرسها، واعلم أنَّه لا يدرك المفاخر من رضي بالصف الآخر.
أصحاب الهمم لا ينغمسون في الترف المُنْسِي، وكثرة المباح الملهي، قال ابن القيم -رحمه الله-: "قال لي شيخ الإسلام في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطًا في النجاة، فالعارف يترك كثيرًا من المباح؛ برزخًا بين الحلال والحرام".
صاحب الهِمَّة سبَّاق إلى الخيرات، مبادر إلى القربات، لا يفرغ من مأثُرة إلَّا بدأ مأثُرة أخرى، لا ينفض يده من عمل إلَّا وضعها في عمل آخر، فيفيد نفسه، وينفع أمته، قال أحد السلف: "إذا هممت بخير؛ فبادر هواك لا يغلبك، إذا هممت بشر؛ فسوِّف هواك لعلك تظفر".
أصحاب الهمم العالية يتعبون لبلوغ المعالي، ويقاسون المشقة للصعود في درجات الكمال، لكنه تعب يعقبه فرح، ونعيم لا شقاء بعده، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وقد أجمع عقلاء كل أمة على أنَّ النعيم لا يُدْرَك بالنعيم، وإنَّ من آثر الراحة؛ فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا همَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلًا؛ استراح طويلًا، وإنَّما تَخْلُصُ الراحة واللذة والنعيم في دار السلام، فأمَّا في هذه الدار؛ فكلا ولمَّا"أ.هـ كلامه -رحمه الله-.
ولقد حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ضعف الهمة وفتور العزيمة الذي يؤدي إلى التفلُّت من أحكام الدِّين والتهاون في أداء الواجبات، والتسويف في القيام بالعبادات، قال -صلى الله عليه وسلم-: (اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)[5]، يؤكد هذا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (بادروا بالأعمال فِتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا،أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)[6].
إذا كنا نطمح لبلوغ المرتب العالية، ونصرة ديننا وأمتنا، فلا بد من تغذية الهمم، وتنميتها في نفوسنا، وذلك:
* بقراءة القرآن.
* وتدبُّر سيرة النبي-صلى الله عليه وسلم- وسير العظماء وأصحاب الهمم. وحضور مجالس العلم.
* والتفكُّر في الحال والمآل.
فالجنة غالية لكنها محفوفة بالمكاره، ومن رام السعادة؛ تصبَّر لعبور جسر المشقة بالجد والاجتهاد، قال ابن القيم -رحمه الله-: "المطلب الأعلى موقوف حصوله على همة عالية ونية صحيحة، فمن فقدهما؛ تعذَّر عليه الوصول إليه، فإنَّ الهمة إذا كانت عالية؛ تعلَّقت به وحده دون غيره، وإذا كانت النية صحيحة؛ سلك العبد الطريق الموصِّلة إليه، فالنية تُفْرِد له الطريق، والهمة تُفْرِد له المطلوب، فإذا توحَّد مطلوبه، والطريق الموصِّلة إليه؛ كان الوصول غايته، وإذا كانت همَّته سافلة؛ تعلقت بالسُّفليات، ولم تتعلَّق بالمطلب العالي، قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت : 69].
تفريغ مادة صوتية للشيخ: للشيخ عبد الباري الثبيتي -حفظه الله-
(بتصرف)