الآية التي قال عنها الشنقيطي :
يجب على كل مسلم أن يتدبرها كثيراً
يجب على كل مسلم أن يتدبرها كثيراً
قال العلامة الشنقيطي ـ رحمه الله ـ في أوائل تفسيره لسورة الروم ،وتحديداً عند الآية (6) ،وهي قوله تعالى :
(وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا
مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) [الروم/6، 7])
قال رحمه الله ـ في الأضواء 6/477 ـ
اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا القرآن أن يتدبر آية الروم تدبراً كثيراً ، ويبين ما دلت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس .
وإيضاح ذلك :
أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلى ضعاف العقول من
المسلمين شدة إتقان الإفرنج ، لأعمال الحياة الدنيا ومهارتهم فيها على
كثرتها ، واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك ، فظنوا أن من قدر على
تلك الأعمال أنه على الحق ، وأن من عجز عنها متخلف وليس على الحق ، وهذا
جهل فاحش ، وغلط فادح . وفي هذه الآية الكريمة إيضاح لهذه الفتنة وتخفيف
لشأنها أنزله الله في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرلة ، فسبحان الحكيم
الخبير ما أعلمه ، وما أعظمه ، وما أحسن تعليمه .
فقد أوضح جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أكثر الناس لا يعلمون ، ويدخل
فيهم أصحاب هذه العلوم الدنيوية دخولاً أولياً ، فقد نفى عنهم جل وعلا اسم
العلم بمعناه الصحيح الكامل ، لأنهم لا يعلمون شيئاً عمن خلقهم ، فأبرزهم
من العدم إلى الوجود ، وزرقهم ، وسوف يميتهم ، ثم يحييهم ، ثم يجازيهم على
أعمالهم ، ولم يعلموا شيئاً عن مصيرهم الأخير الذي يقيمون فيه إقامة أبدية
في عذاب فظيع دائم : ومن غفل عن جميع هذا فليس معدوداً من جنس من يعلم كما
دلت عليه الآيات القرآنية المذكورة ، ثم لما نفى عنهم جل وعلا اسم العلم
بمعناه الصحيح الكامل أثبت لهم نوعاً من العلم في غاية الحقارة بالنسبة إلى
غيره .
وعاب ذلك النوع من العلم بعيبين عظيمين :
أحدهما :
قلته وضيق مجاله ، لأنه لا يجاوز ظاهراً من الحياة الدنيا ، والعلم المقصور
على ظاهر من الحياة الدنيا في غاية الحقارة ، وضيق المجال بالنسبة إلى
العلم بخالق السماوات والأرض جل وعلا ، والعلم بأوامره ونواهيه ، وبما يقرب
عبده منه ، وما يبعده منه ، وما يخلد في النعيم الأبدي من أعمال الخير
والشر .
والثاني منهما :
هو دناءة هدف ذلك العلم ، وعدم نبل غايته ، لأنه لا يتجاوز الحياة الدنيا ،
وهي سريعة الانقطاع والزوال ويكفيك من تحقير هذا العلم الدنيوي أن أجود
أوجه الإعراب في قوله : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً } أنه بدل من قوله قبله لا
يعلمون ، فهذا العلم كلا علم لحقارته .
قال الزمخشري في الكشاف ، وقوله : يعلمون بدل من قوله : لا يعلمون ، وفي
هذا الإبدال من النكته أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ، ويسد مسده
ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا
يتجاوز الدنيا ...
وقوله : { ظَاهِرا مِّنَ الحياة الدنيا }
يفيد أن الدنيا ظاهراً وباطناً فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع
بزخارفها ، والتنعيم بملاذها وباطنها ، وحقيتها أنها مجاز إلى الآخرة ،
يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة ، وفي تنكير الظاهر أنهم لا
يعلمون إلا ظاهراً واحداً من ظواهرها ، و(هم) الثانية يجوز أن يكون مبتدأ ،
وغافلون خبره ، والجملة خبر ، (هم) الأولى ، وأن يكون تكريراً للأولى ،
وغافلون : خبر الأولى ، وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن
الآخرة ، ومقرها ، ومحلها وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع . انتهى كلام صاحب
الكشاف .
وقال غيره : وفي تنكير قوله : ظاهراً تقليل لمعلومهم ، وتقليله يقربه من النفي ، حتى يطابق المبدل منه . اهـ ، ووجهه ظاهر .
واعلم أن المسلمين يجب عليهم تعلم هذه العلوم الدنيوية ، كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : { أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } [ مريم : 78 ]
وهذه العلوم الدنيوية التي بينا حقارتها بالنسبة إلى ما غفل عنه أصحابها
الكفار ، إذا تعلمها المسلمون ، وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقاً لما
أمر الله به ، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : كانت من أشرف العلوم
وأنفعها ، لأنها يستعان بها على إعلاء كلمة الله ومرضاته جل وعلا ، وإصلاح
الدنيا والآخرة ، فلا عيب فيها إذن كما قال تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ }
[ الأنفال : 60 ] فالعمل في إعداد المستطاع من القوة امتثالاً لأمر الله
تعالى وسعياً في مرضاته ، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم الكفار الغافلين عن
الآخرة ، كما ترى الآيات بمثل ذلك كثيرة . والعلم عند الله تعالى)
انتهى.