ــ هل السجود المعمول به حاليا هو ذلك السجود الذي يأمرنا الله به ؟ هذا ما سنتعرف عليه بإذن الله
يقول سبحانه ( ... إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم ... ) إن قوله ( خروا سجدا ) يتبين من الآية أن السجود يكون على الأرض بما أنه يأتي خرا بعد القيام ، هذا أول شيء .
وقوله ( .. خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم .. ) يبين أن هناك تسبيح يقال عندما يخر المرء للسجود ، ويبين أيضا أنه يأتي في السجود بعد إتمام الخر لأن الخر سبق التسبيح ( خروا سجدا ) ( وسبحوا )
إن وضعية السجود وضعية ثابتة ومستقرة مثلها مثل وضعية القيام تماما وذلك قوله سبحانه ( .... أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ... ) أنظر إلى قوله ( ساجدا وقائما ) أي أن المصلي سيمضي وقته كله بين هاتين الوضعيتين ، إما ساجدا وإما قائما ، ونفس الشيء قاله الله في آية أخرى عن عباد الرحمان إذ يقول فيهم ( ... وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ... ) أنظر إلى قوله ( سجدا وقياما ) فهي نفس الوضعيتين المذكورة سابقا ، إذن فوضعية السجود وضعية يستقر المرء فيها ليسبح الله فيها ، ولحد الآن نعلم أن السجود وضعية مستقرة ، وتكون هذه الوضعية على الأرض ، ويقال فيها التسبيح ، بقي لنا أن نعرف كيفيته .
ــ كيفية السجود
يقول سبحانه ( ... تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر
السجود .. ) أنظر إلى هذه الآية جيدا ، فإنها تبين أن هناك حالة يكون فيها المؤمنون عادة وأن هذه الحالة تترك أثرها على المؤمنين ، فالآية تذكر بالضبط حالة السجود والتي تكمن في قوله ( تراهم ركعا سجدا ) وبالضبط في كلمة ( سجدا ) وهذه الحالة هي التي قال الله عنها ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود )
أي أن هناك علامة تظهر على الوجه من أثر السجود ، إذن فالسجود يترك أثرا على الوجه ، وهل هذه حقيقة أم مجاز ذلك ما سنتعرف عليه بإذن الله ، علمنا من قبل أن السجود يكون على الأرض ، وأنه وضعية
مستقرة أي أن هذا السجود سيأخذ وقتا على الأرض ، وأن هذه الوضعية تتكرر على الدوام ، عدة مرات في اليوم وطيلة حياة المؤمن ، والآية تقول أنها تترك أثرا على الوجه ، وهذا يعني أن الوجه هو الذي يكون على علاقة بالأرض ، وأن استمرار الفعل هذا سيخلف أثرا عليه ، وهذا ما يفعله إخواننا المسلمين حين يسجدون على وجوههم ، والوجه هو ما يعرف عند الجميع والذي يكون فيه العينين كما قال يوسف لإخوته ( ... اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ... ) فالوجه هو المكان الذي يكون فيه البصر أي المكان المعروف ، فلا يسجد الإنسان على حنكه مثلا ، فالحنك جزء من الوجه وليس الوجه ، فالوجه يمثل مساحة كبيرة ، وبما أن أثر السجود سيكون على الوجه إذن فالجبهة والأنف هما اللذان يكونان على الأرض وبالتالي فالأثر يكون عليهما ، وهذه حقيقة نلمسها وليست مجازا ، إذن فكيفية السجود المعروفة عند إخواننا المسلمين صحيحة .
ــ ( ... يخرون للأذقان سجدا ... )
تطرقت لهذه الآية لأرفع الشبهة عنها بإذن الله حتى إذا مر بها المؤمن لا يفكر بأن يسجد على ذقنه مثلا ، وقبل ذلك أتناول قوله سبحانه حين قال في قوم نوح ( ... وإني دعوتهم جهارا ، وإني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ، فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ... ) نأخذ من الآية قوله
( ... يرسل السماء عليكم مدرارا ... ) هل يعني أن السماء هي التي تسقط على الناس مدرارا ، ولا يمكن لعاقل أن يقول مثل هذا الكلام ، وإنما يوجد في العبارة كلام غير مصرح به لفظيا ويكتشف من العبارة ذاتها ، ومعنى العبارة هو [ ... يرسل المطر عليكم من السماء مدرارا ... ] وهناك الكثير من الآيات مثل هذا النوع ، وقد تجد الآية وفيها عدة كلمات غير مصرح بها لفظيا ، ويعرف هذا المخفي من الكلام من خلال مضمون الكلام ، ومن خلال محتوى القرآن ككل ، وهناك توضيح يأتي من آيات أخرى وهكذا ، هناك ما يكتشف بالبداهة ، وهناك ما يكتشف بقليل من العلم بالتنزيل ، وهناك ما يكتشف بعلم وافر في التنزيل ، والإنسان وهو يقرأ التنزيل يجد نفسه يمر من حين لآخر بمثل هذه الآيات ، ومن بين هذه الآيات قوله سبحانه ( ... إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ... ) والذي يتبين من الآية أن تلاوة القرآن كانت سببا في وجود ذكر الخر والأذقان والسجود ، نحن نعلم أن تلاوة القرآن ينشأ على إثرها الخر والسجود ، إذن نبعد الخر والسجود من المتابعة ، ويبقى ذكر الأذقان وعلاقته بتلاوة القرآن ، وهل السجود يكون على الأذقان ، فالآية لا تقول بذلك فهي تقول ( يخرون للأذقان ) وليس يخرون على الأذقان ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى قد بينا سابقا من مضمون القرآن في آيات أخرى أن السجود يكون على الوجه ، إذن فقضية السجود على الذقن تبقى مستبعدة ، ننتقل الآن إلى آية أخرى من التنزيل يقول الله فيها ( ... أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا ، إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا وبكيا ... ) نلاحظ في هذه الآية أن تلاوة القرآن كانت سببا في الخر والسجود والبكاء ، وهذه الآية لها تطابق كبير مع الآية السابقة ، لنبعد مرة أخرى الخر والسجود من الآية فيبقى لدينا البكاء في هذه الآية ، وفي الآية السابقة بقي فيها الأذقان ، فهل هناك علاقة بين البكاء والذقن ، نعم هناك علاقة ، فعندما يكون البكاء قليلا فإنه يتوقف قرب أطراف العينين ، وإذا كان الحدث كبيرا يزداد أكثر من ذلك ، وإذا كان قويا جدا فإن البكاء يصل إلى الذقن ، إذن فالبكاء يتناسب مع الحدث المسبب له ويعكس عادة حجم وأهمية الحدث ، إذن فالآية التي ذكر فيها الأذقان وسبب ذلك كان تلاوة القرآن ونفس هذا السبب يحدث البكاء في هذه الآية ، إذن فالمعنى لآية الأذقان أن تلاوة القرآن كان لها أثرا كبيرا لحد ينزل الدمع إلى الأذقان ، والآن ننتقل إلى الآية التي يوضح الله فيها هذا المعنى وهي الآية التي أردفها مباشرة بعد ذكر الأذقان والتي يقول فيها
( ... ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ... ) فانظر إلى الآية جيدا وكيف هي الأذقان مربوطة بالبكاء ، وإليك المعنى التوضيحي للآية باستخراج الكلمات الغير مصرح بها لفظيا فنقول أن معنى الآية هو [ يخرون والدمع يذرف للأذقان يبكون ] نفس الشيء كما قلنا في قوله سبحانه ( ... يرسل السماء عليكم مدرارا .. ) أي يرسل المطر عليكم من السماء مدرارا ، وهذا هو المعنى للآية .