منصور بن محمد المقرن
يحرص الناس على تجنّب ما يضرّ أبدانهم، لكن القليل من يتجنب ما يضرّ عباداته القلبية وصحّته النفسيّة، ومن أكثر ما يُفسد على المرء حياته أمران: الطّمع فيما عند الناس من مال ورياسة وجاه ونحوها، والثاني محبّة سماع الثناء منهم.
فالأول يُذِلّ أعناقَ الرجال حتى يكونوا عبيدًا لمن يرجونه، كما قيل: "العبيد ثلاثة: عبد رقٍ، وعبد شهوةٍ، وعبد طمعٍ". وصدقوا والله! إذ كيف يكون حرًّا من يقوده طمعه ليصبح هواه تبعًا لهوى مخلوقٍ مثله يدور معه حيث يدور يرجو ما عنده؛ فترى همومه مشتّتة ومواقفه مذبذبة! وأين هو ممن طمعه في رضا ربه ومولاه يتتبع مراضيه سبحانه ويتجنّب مساخطه؛ فترى نفسه مطمئنة وأحواله مستقرة، وما أجمل قول أبي حازم الأعرج رحمه الله: "لمُصانَعة وجهٍ واحدٍ (يعني وجه الله تعالى) أيسر عليك من مُصانَعة وجوهٍ كثيرة، إنك إذا صانعت ذلك الوجه الواحد مالت الوجوه كلها إليك، وإذا استفسدت ما بينه شنئتك الوجوه كلها".
ومن الملاحظ أن الطمع لا يُصيب كثيرًا من الفقراء وعامة الناس فحسب، بل قد يصيب الأمراء والكبراء والعلماء إذا كان لهم تشوّق إلى مناصب أعلى وأموالٍ أغلى، فيذلّون أنفسهم ويتنازلون عن كرامتهم ومبادئهم من أجلها. ومن مأثور الحكم "الطمع يذلّ الأمير، واليأس يعزّ الفقير"، وقال كعب الأحبار: "الصفا الزلزل الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء: الطمع".
أما الأمر الآخر وهو محبة المرء سماع ثناء الناس عليه فإنه يُفسد صاحبه إلاّ إذا فعل الطاعة ابتغاء ما عند الله وحده، ثم سمع مدحًا لم يتشوّف له، فإن ذلك من عاجل بشرى المؤمن كما ورد في الحديث، على أن يحفظ قلبه من دخول العُجب فيه.
ومن أظهر أسباب محبة الثناء والمدح تعظيم الدنيا على الآخرة، كما قال ابن رجب رحمه الله: "فإن من عظمت الدنيا عنده اختار المدح وكره الذم، فربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم وعلى فعل كثير من الباطل رجاء المدح، فمن استوى عنده حامده وذامّه في الحق دلَّ على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه وامتلائه من محبة الحق وما فيه رضا مولاه".
ومن تتبع أقوال وأحوال السلف وجدها ناطقة بعدم التطلع لثناء الناس عليهم بل وكراهيتهم لذلك، فقد قال رجل لابن عمر رضي الله عنهما: يا خير الناس، أو يا ابن خير الناس، فقال ابن عمر: "ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس، ولكني عبدٌ من عباد الله أرجو الله وأخافه، والله لا تزالوا بالرجل حتى تهلكوه".
و قال مطرف بن عبد الله: "ما مدحني أحد إلاّ تصاغرتْ عليَّ نفسي".
وحضرت بعضَ أشياخ السلف الصلاةُ وهو مع ركب، فقيل له: تقدَّم، أي ليؤمهم. فقال: لا. فقيل له: ما منعك؟ قال: خِفت أن يمر المارّ فيقول إنما قدَّموا هذا لأنه خيرهم.
وقال الشافعي: "وددت أن كل علم أعلمه يعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدوني".
ويدخل في محبة المرء ثناء الناس عليه طلب توقير الناس وإكرامهم له بسبب علمه أو ماله أو جاهه؛ كمن يمتعض إذا دخل مجلسًا فلم يصدَّر فيه، أو كان في قوم فلم يعرفوه ويُبجّلوه. وقد نبه الإمام سفيان الثوري -رحمه الله- إلى ذلك فقال: "إياك أن تحب محمدة الناس. ومحمدتهم أن تحب أن يكرموك بعملك، ويروا لك شرفًا ومنزلة في صدورهم". فأين هؤلاء من موقف التابعي عبد الله بن محيريز -رحمه الله- عندما دخل ذات يوم السوق ليشتري له ثوبًا، فرآه من يعرفه فقال لصاحب المحل: هذا ابن محيريز فأحسن بيعه، فغضب ابن محيريز، وطرح الثوب، وقال: "إنما نشتري بأموالنا، لسنا نشتري بديننا".
وختامًا.. فأدعك أخي الكريم مع وصفة نافعة بإذن الله كتبها طبيب القلوب ابن القيم -رحمه الله- لعلاج هاتين الآفتين. قال -رفع الله درجته-: "لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء، والطمع فيما عند الناس، إلاّ كما يجتمع الماء والنار، والضبّ والحوت.
فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص؛ فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشّاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص.
فإن قلتَ: وما الذي يسهّل عليَّ ذبح الطمع، والزهد في الثناء والمدح؟
قلتُ: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينًا أنه ليس من شيء يُطمع فيه إلاّ وبيد الله وحده خزائنه، لا يملكها غيره، ولا يُؤتي العبدَ منها شيئًا سواه، فاطلبه من الله.
وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهّله عليك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمّه ويشين إلاّ الله وحده، كما قال ذلك الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: إن حمدي زيْن وإن ذمي شيْن. فقال: "ذاك الله عز وجل".
فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذمّ من لا يشينك ذمّه، وارغب في مدح مَن كل الزين في مدحه وكل الشيْن في ذمّه، ولن يُقدر على ذلك إلاّ بالصبر واليقين، فمتى فقدتَ الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب، قال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ). [الروم:60]."أهـ