سعد عطية فياض
(1) حجة فرعون وشريعة قوم لوط
لقد حكى الله تعالى – في كتابه - مشاهد معركة الحق والباطل المتكررة في كل عصر .. تختلف الصور وتبقى الحقائق ؛ حتى يتعجب المؤمن من تطابق الجاهلية في أسسها ومبادئها ونفسيتها وأساليبها ومراحلها وتجبرها فلا يزيده هذا إلا يقيناً في نهايتها ليبقى من تأخر من المؤمنين بعدها يتعجبون من زوالها أسرع مما كانوا يظنون ويغبطون السابقين الذين استجلبوا بصبرهم وبذلهم سنن الله في الظالمين ..
مشهد حجة فرعون:
ومن هذه المشاهد مشهد مؤمن آل فرعون وقد أعلن عن إيمانه وحاجج عن دينه ورأى أن الصدع بكلمة الحق في ملأ فرعون أرضى لله من حفاظه على نفسه ، فقام يعرض الدلائل والحجج مما يستبين به الحق لأمثالهم ،وهو مشهد من مشاهد معركة الحجة والبيان ، ويحكي لنا الله كيف أن فرعون لما أذهله منطق الإيمان وخشي على ملئه أن تجد حلاوة الإيمان سبيلاً لقلوبهم كشف عن وجه الجاهلية الحقيقي فإذا هو كالحٌ قبيحٌ؛ فالملأ ليس ليُستشار وصفوة العقول التي جمعها حوله ليست للانتفاع بفهمها ورأيها ، وأما الحجج فلا تُناقش – في منطقه - بالحجج ، والدلائل لا يُرد عليها بمثلها.. ولكن حجته الدامغة الساطعة هي أن ما يقوله هو... هو الحق، وهو لا يهدي إلا (سبيل الرشاد) وليس لأحد أن يرى إلا ما يراه فرعون لهم..!! ...
يقول صاحب التحرير والتنوير: (تفطن فرعون إلى أنه المعرض به في خطاب الرجل المؤمن إلى قومه فقاطع كلامه وبين سبب عزمه على قتل موسى عليه السلام بأنه ما عرض عليهم ذلك إلا لأنه لا يرى نفعا إلا في قتل موسى ولا يستصوب غير ذلك ويرى ذلك هو سبيل الرشاد، وكأنه أراد ألا يترك لنصيحة مؤمنهم مدخلا إلى نفوس ملئه خيفةً أن يتأثروا بنصحه فلا يساعدوا فرعون على قتل موسى...)
فحجته كما يقول الشيخ سيد قطب – رحمه الله - : (إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صوابا ، وأعتقده نافعا . وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال!..
وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟! وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟! وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأيا؟ وإلا فلم كانوا طغاة؟!!)
ولقد قدم سبحانه هذا المشهد بقوله تعالى: (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ) فكأن هذا المنطق وهذه الحجة هي حجة كل متكبر طاغية نسي يوم القيامة والعرض على الله العزيز القهار...
يقول سبحانه وتعالى : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)}
ولقد حكى سبحانه مثل هذه الحجة عن المنافقين ولكن بما يُناسبهم من ألفاظٍ فذكر أنهم يقولون: {إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا }
ففرعون لايهدي إلا للرشاد والمنافقون لا يريدون إلا الإحسان والتوفيق ، أما أهل الإيمان فهم (وإن لم يظهر منهم فساد ) يُخاف أن يُظهروا في الأرض الفساد !!
أليس هذا هو مشهد الحرب على النقاب ومن قبله الحرب على الختان ومعه الجدار والحصار وتصدير الغاز واتفاقية المثلية الجنسية ..؟!
ألم يخرج المدعو (رئيس جامعة القاهرة) ليصف ويُقرر أن (النقاب تخلف) ؟!
وهل يستطيع هذا العلماني أن يحاجج عن نفسه ؟!
وهل استطاع منظرو العلمانية البالية أن ينصروا أصول علمانيتهم المعوجة يوماً في مناظرة مع علماء الصحوة - اللهم إلا في حروبهم الخيالية مع طواحين الهواء في أفلامهم وكتاباتهم - ؟! ..
هذا – إذاً- هو الوجه الحقيقي للعلمانية في أوطاننا..
ومن نافلة القول أن نقول أنهم يتشدقون أن الإسلاميين إذا حكموا فسيفرضون آرائهم ويلزمون الناس بها ، وهذا صحيح..!!
ولكن الفارق أن الإسلام يفرض حكم الله وليس آراء البشر ، وأن الإسلام يفرض الحق وهو يستدل له بأدلة لا يقوى الباطل أن يجد حجةً ضدها ، وأن الإسلام يفرض الطهر والعفة والستر..
أما الجاهلية فتفرض أهواءها ، وليس لها حجة إلا حجة فرعون (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) ، ولا تفرض إلا الخنا والعهر والعُري..
هذا هو الفارق ،فنتيجة فرض الإسلام حكم الله على الأرض هو مرضاة الله وبركاتٍ في الرزق والعيش ، أما نتيجة فرض الجاهلية لرأيها كما قال تعالى: **وأضل فرعون قومه وما هدى}...
فهو - إذاً - الإضلال باسم الإرشاد!! وهو التخلف باسم العلم ! وهو الغش بدعوى منع الغش!!
فمسلكهم كما ذكره ابن كثير هو مسلك من غش رعيته وخانهم ،يقول – رحمه الله - : (فقوله: **ما أريكم إلا ما أرى } كذب فيه وافترى، وخان الله ورسوله ورعيته، فغشهم وما نصحهم وكذا قوله: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } أي: وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد وقد كذب أيضا في ذلك، وإن كان قومه قد أطاعوه واتبعوه، قال الله تعالى: **فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد } [هود: 97]، وقال تعالى: **وأضل فرعون قومه وما هدى } [طه: 79]، وفي الحديث: \"ما من إمام يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام\" (رواه البخاري في صحيحه برقم (7150، 7151) ومسلم في صحيحه برقم (142) بنحوه من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه) )
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله - : (فلو أمرهم باتباعه اتباعا مجردا على كفره وضلاله، لكان الشر أهون، ولكنه أمرهم باتباعه، وزعم أن في اتباعه اتباع الحق وفي اتباع الحق اتباع الضلال)
مشهد شريعة قوم لوط:
أما المشهد المكمل لحجة فرعون فهو شريعة قوم لوطٍ وجوابهم على التخويف بالله وبعذابه قال تعالى (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)
وهو نفسه قول قوم شعيب قال تعالى : **قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم}
وهو ما حكاه الله عن كفار مكة **وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا}
فمكر الجاهلية بالمؤمنين ليس فيه ديمقراطية ولا حرية رأي ولا جدالٌ أو مناظرة ولكنه كما قال تعالى :**وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}
فهم كما قال صاحب التحرير: ( أرادوا الاستراحة من إنكاره (لوط عليه السلام) عليهم شأن من يشعرون بفساد حالهم، الممنوعين بشهواتهم عن الإقلاع عن سيئاتهم، المصممين على مداومة ذنوبهم، فإن صدورهم تضيق عن تحمل الموعظة ، وأسماعهم تصم لقبولها ولم يزل من شأن المنغمسين في الهوى تجهم حلول من لا يشاركهم بينهم)..
أوليس هذا منطق العلمانيين وفعلهم ..؟!
ألم يتنادوا أن اطردوا المنتقبات من الجامعات والمدارس والمستشفيات والهيئات الحكومية..؟!
ألم يتنادوا أن أخرسوا أصوات الدعاة وأخرجوها فإنها من (وارد الخارج) ..؟!
ألم تخرج من فلتات ألسنتهم بل وصريح بيانهم الكراهية والضيق لرؤية حجاب الطهر والعفة ؟!
وماذا في طهر حجاب المؤمنات لتكرهوه إلا الطهر والعفاف والفضيلة ..؟!
يقول الشعرواي في تفسيره : ( فهل التطهر عيب! لا ، لكنهم عاشوا في النجاسة وألفوها ، ويرفضون الخروج منها ، لذلك كرهوا التطهر . والمثال على ذلك حين نجد شابا يريد أن ينضم إلى صداقة جماعة في مثل عمره ، لكنه وجدهم يشربون الخمور ، فنصحهم بالابتعاد عنه ، ووجدهم يغازلون النساء فحذرهم من مغبة الخوض في أعراض الناس ، لكن جماعة الأصدقاء كرهت وجوده بينهم لأنه لم يألف الفساد فيقولون : لنبتعد عن هذا المستقيم المتزهد المتقشف ، وكأن هذه الصفات صارت سبة في نظر أصحاب المزاج المنحرف ، مثلهم مثل الحيوان الذي يحيا في القذارة ، وإن خرج إلى النظافة يموت )
فما هو الحل - في شريعتهم - مع (جريمة التطهر) ؟! يُتابع فيقول : (إذن : أخرجوهم ، لا لأنهم أهل نجاسة ومعصية ، إنما لأنهم أناس يتطهرون ، فالطهارة والعفة جريمتهم التي يخرجون من أجلها!! كما تقول : لا عيب في فلان إلا أنه كريم ، أو تقول : لا كرامة في فلان إلا أنه لص . فهذه - إذن - صفة لا تمدح ، وتلك صفة لا تذم .
لقد قلب هؤلاء الموازين ، وخالفوا الطبيعة السوية بهذه الأحكام الفاسدة التي تدل على فساد الطباع ، وأي فساد بعد أن قلبوا المعايير ، فكرهوا ما يجب أن يحب ، وأحبوا ما يجب أن يكره؟ .)
فهو إذاً موقفٌ موحد للجاهلية اتجاه الطهر والمتطهرين أياً كانت صورته أو هيئته يكفي فقط أنه (طهر) ، يقول صاحب التحرير: (والتطهر تكلف الطهارة. وحقيقتها النظافة، وتطلق الطهارة مجازا على تزكية النفس والحذر من الرذائل وهي المراد هنا، وتلك صفة كمال، لكن القوم لما تمردوا على الفسوق كانوا يعدون الكمال منافرا لطباعهم، فلا يطيقون معاشرة أهل الكمال، ويذمون ما لهم من الكمالات فيسمونها ثقلا، ولذا وصفوا تنزه لوط عليه السلام وآله تطهرا، بصيغة التكلف والتصنع، ويجوز أن يكون حكاية لما في كلامهم من التهكم بلوط عليه السلام وآله، وهذا من قلب الحقائق لأجل مشايعة العوائد الذميمة، وأهل المجون والاخلاع، يسمون المتعفف عن سيرتهم بالتائب أو نحو ذلك، فقولهم **إنهم أناس يتطهرون} قصدوا به ذمهم)
يقول الشيخ سيد قطب – رحمه الله - : (ولكن لماذا العجب؟ وماذا تصنع الجاهلية الحديثة؟ أليست تطارد الذين يتطهرون ، فلا ينغمسون في الوحل الذي تنغمس فيه مجتمعات الجاهلية - وتسميه تقدمية وتحطيما للأغلال عن المرأة وغير المرأة - أليست تطاردهم في أرزاقهم وأنفسهم وأموالهم وأفكارهم وتصوراتهم كذلك؛ ولا تطيق أن تراهم يتطهرون؛ لأنها لا تتسع ولا ترحب إلا بالملوثين الدنسين القذرين؟! إنه منطق الجاهلية في كل حين!!)
فماذا حاق بالقوم الظالمين؟!:
وكما حكى الله مشاهد الصراع بيَّن سننه – سبحانه - الجارية في كل من انحاز لسبيل المجرمين وسار على نهج الطغاة الظالمين ...
فليجتهد كل ظالم في ظلمه فإنه مصيبه من وعد الله وغضبه وعذابه قدر ما يطلبه لنفسه ..ويستحقه بفعله ..
ولا يظنن أحد أن الوعيد للكافرين فقط ، بل هو في حق كل ظالم وطاغية أيضاً ، قال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
فلينتظر الظالمين وعيد الله فيهم وليعمل المتطهرون لوعد الله لهم..
قال تعالى : {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}
وقال تعالى : {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}
وقال تعالى : {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها}
وقال تعالى : {وخاب كل جبار عنيد}
فليتجبر من شاء أن يتجبر وليُقارع الدليل والرأي والحجة بالقهر والبطش والتكبر ..
وليزد في تجبره ليشمل بقية المتطهرين المؤمنين..
وليجمع جنده ويتباهي في سطوته ويتفاخر بتجبره وليجمع كل قوته لعله يدرك المؤمنين ويسحقهم فإن سنة الله الجارية باقية ،وليكونن لمن بعده آية..
وغداً نرى أي الوعدين أصدق ..وعد الله للمؤمنين أم وعود الشيطان للظالمين..؟!!
والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
(1) حجة فرعون وشريعة قوم لوط
لقد حكى الله تعالى – في كتابه - مشاهد معركة الحق والباطل المتكررة في كل عصر .. تختلف الصور وتبقى الحقائق ؛ حتى يتعجب المؤمن من تطابق الجاهلية في أسسها ومبادئها ونفسيتها وأساليبها ومراحلها وتجبرها فلا يزيده هذا إلا يقيناً في نهايتها ليبقى من تأخر من المؤمنين بعدها يتعجبون من زوالها أسرع مما كانوا يظنون ويغبطون السابقين الذين استجلبوا بصبرهم وبذلهم سنن الله في الظالمين ..
مشهد حجة فرعون:
ومن هذه المشاهد مشهد مؤمن آل فرعون وقد أعلن عن إيمانه وحاجج عن دينه ورأى أن الصدع بكلمة الحق في ملأ فرعون أرضى لله من حفاظه على نفسه ، فقام يعرض الدلائل والحجج مما يستبين به الحق لأمثالهم ،وهو مشهد من مشاهد معركة الحجة والبيان ، ويحكي لنا الله كيف أن فرعون لما أذهله منطق الإيمان وخشي على ملئه أن تجد حلاوة الإيمان سبيلاً لقلوبهم كشف عن وجه الجاهلية الحقيقي فإذا هو كالحٌ قبيحٌ؛ فالملأ ليس ليُستشار وصفوة العقول التي جمعها حوله ليست للانتفاع بفهمها ورأيها ، وأما الحجج فلا تُناقش – في منطقه - بالحجج ، والدلائل لا يُرد عليها بمثلها.. ولكن حجته الدامغة الساطعة هي أن ما يقوله هو... هو الحق، وهو لا يهدي إلا (سبيل الرشاد) وليس لأحد أن يرى إلا ما يراه فرعون لهم..!! ...
يقول صاحب التحرير والتنوير: (تفطن فرعون إلى أنه المعرض به في خطاب الرجل المؤمن إلى قومه فقاطع كلامه وبين سبب عزمه على قتل موسى عليه السلام بأنه ما عرض عليهم ذلك إلا لأنه لا يرى نفعا إلا في قتل موسى ولا يستصوب غير ذلك ويرى ذلك هو سبيل الرشاد، وكأنه أراد ألا يترك لنصيحة مؤمنهم مدخلا إلى نفوس ملئه خيفةً أن يتأثروا بنصحه فلا يساعدوا فرعون على قتل موسى...)
فحجته كما يقول الشيخ سيد قطب – رحمه الله - : (إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صوابا ، وأعتقده نافعا . وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال!..
وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟! وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟! وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأيا؟ وإلا فلم كانوا طغاة؟!!)
ولقد قدم سبحانه هذا المشهد بقوله تعالى: (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ) فكأن هذا المنطق وهذه الحجة هي حجة كل متكبر طاغية نسي يوم القيامة والعرض على الله العزيز القهار...
يقول سبحانه وتعالى : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)}
ولقد حكى سبحانه مثل هذه الحجة عن المنافقين ولكن بما يُناسبهم من ألفاظٍ فذكر أنهم يقولون: {إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا }
ففرعون لايهدي إلا للرشاد والمنافقون لا يريدون إلا الإحسان والتوفيق ، أما أهل الإيمان فهم (وإن لم يظهر منهم فساد ) يُخاف أن يُظهروا في الأرض الفساد !!
أليس هذا هو مشهد الحرب على النقاب ومن قبله الحرب على الختان ومعه الجدار والحصار وتصدير الغاز واتفاقية المثلية الجنسية ..؟!
ألم يخرج المدعو (رئيس جامعة القاهرة) ليصف ويُقرر أن (النقاب تخلف) ؟!
وهل يستطيع هذا العلماني أن يحاجج عن نفسه ؟!
وهل استطاع منظرو العلمانية البالية أن ينصروا أصول علمانيتهم المعوجة يوماً في مناظرة مع علماء الصحوة - اللهم إلا في حروبهم الخيالية مع طواحين الهواء في أفلامهم وكتاباتهم - ؟! ..
هذا – إذاً- هو الوجه الحقيقي للعلمانية في أوطاننا..
ومن نافلة القول أن نقول أنهم يتشدقون أن الإسلاميين إذا حكموا فسيفرضون آرائهم ويلزمون الناس بها ، وهذا صحيح..!!
ولكن الفارق أن الإسلام يفرض حكم الله وليس آراء البشر ، وأن الإسلام يفرض الحق وهو يستدل له بأدلة لا يقوى الباطل أن يجد حجةً ضدها ، وأن الإسلام يفرض الطهر والعفة والستر..
أما الجاهلية فتفرض أهواءها ، وليس لها حجة إلا حجة فرعون (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) ، ولا تفرض إلا الخنا والعهر والعُري..
هذا هو الفارق ،فنتيجة فرض الإسلام حكم الله على الأرض هو مرضاة الله وبركاتٍ في الرزق والعيش ، أما نتيجة فرض الجاهلية لرأيها كما قال تعالى: **وأضل فرعون قومه وما هدى}...
فهو - إذاً - الإضلال باسم الإرشاد!! وهو التخلف باسم العلم ! وهو الغش بدعوى منع الغش!!
فمسلكهم كما ذكره ابن كثير هو مسلك من غش رعيته وخانهم ،يقول – رحمه الله - : (فقوله: **ما أريكم إلا ما أرى } كذب فيه وافترى، وخان الله ورسوله ورعيته، فغشهم وما نصحهم وكذا قوله: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } أي: وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد وقد كذب أيضا في ذلك، وإن كان قومه قد أطاعوه واتبعوه، قال الله تعالى: **فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد } [هود: 97]، وقال تعالى: **وأضل فرعون قومه وما هدى } [طه: 79]، وفي الحديث: \"ما من إمام يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام\" (رواه البخاري في صحيحه برقم (7150، 7151) ومسلم في صحيحه برقم (142) بنحوه من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه) )
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله - : (فلو أمرهم باتباعه اتباعا مجردا على كفره وضلاله، لكان الشر أهون، ولكنه أمرهم باتباعه، وزعم أن في اتباعه اتباع الحق وفي اتباع الحق اتباع الضلال)
مشهد شريعة قوم لوط:
أما المشهد المكمل لحجة فرعون فهو شريعة قوم لوطٍ وجوابهم على التخويف بالله وبعذابه قال تعالى (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)
وهو نفسه قول قوم شعيب قال تعالى : **قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم}
وهو ما حكاه الله عن كفار مكة **وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا}
فمكر الجاهلية بالمؤمنين ليس فيه ديمقراطية ولا حرية رأي ولا جدالٌ أو مناظرة ولكنه كما قال تعالى :**وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}
فهم كما قال صاحب التحرير: ( أرادوا الاستراحة من إنكاره (لوط عليه السلام) عليهم شأن من يشعرون بفساد حالهم، الممنوعين بشهواتهم عن الإقلاع عن سيئاتهم، المصممين على مداومة ذنوبهم، فإن صدورهم تضيق عن تحمل الموعظة ، وأسماعهم تصم لقبولها ولم يزل من شأن المنغمسين في الهوى تجهم حلول من لا يشاركهم بينهم)..
أوليس هذا منطق العلمانيين وفعلهم ..؟!
ألم يتنادوا أن اطردوا المنتقبات من الجامعات والمدارس والمستشفيات والهيئات الحكومية..؟!
ألم يتنادوا أن أخرسوا أصوات الدعاة وأخرجوها فإنها من (وارد الخارج) ..؟!
ألم تخرج من فلتات ألسنتهم بل وصريح بيانهم الكراهية والضيق لرؤية حجاب الطهر والعفة ؟!
وماذا في طهر حجاب المؤمنات لتكرهوه إلا الطهر والعفاف والفضيلة ..؟!
يقول الشعرواي في تفسيره : ( فهل التطهر عيب! لا ، لكنهم عاشوا في النجاسة وألفوها ، ويرفضون الخروج منها ، لذلك كرهوا التطهر . والمثال على ذلك حين نجد شابا يريد أن ينضم إلى صداقة جماعة في مثل عمره ، لكنه وجدهم يشربون الخمور ، فنصحهم بالابتعاد عنه ، ووجدهم يغازلون النساء فحذرهم من مغبة الخوض في أعراض الناس ، لكن جماعة الأصدقاء كرهت وجوده بينهم لأنه لم يألف الفساد فيقولون : لنبتعد عن هذا المستقيم المتزهد المتقشف ، وكأن هذه الصفات صارت سبة في نظر أصحاب المزاج المنحرف ، مثلهم مثل الحيوان الذي يحيا في القذارة ، وإن خرج إلى النظافة يموت )
فما هو الحل - في شريعتهم - مع (جريمة التطهر) ؟! يُتابع فيقول : (إذن : أخرجوهم ، لا لأنهم أهل نجاسة ومعصية ، إنما لأنهم أناس يتطهرون ، فالطهارة والعفة جريمتهم التي يخرجون من أجلها!! كما تقول : لا عيب في فلان إلا أنه كريم ، أو تقول : لا كرامة في فلان إلا أنه لص . فهذه - إذن - صفة لا تمدح ، وتلك صفة لا تذم .
لقد قلب هؤلاء الموازين ، وخالفوا الطبيعة السوية بهذه الأحكام الفاسدة التي تدل على فساد الطباع ، وأي فساد بعد أن قلبوا المعايير ، فكرهوا ما يجب أن يحب ، وأحبوا ما يجب أن يكره؟ .)
فهو إذاً موقفٌ موحد للجاهلية اتجاه الطهر والمتطهرين أياً كانت صورته أو هيئته يكفي فقط أنه (طهر) ، يقول صاحب التحرير: (والتطهر تكلف الطهارة. وحقيقتها النظافة، وتطلق الطهارة مجازا على تزكية النفس والحذر من الرذائل وهي المراد هنا، وتلك صفة كمال، لكن القوم لما تمردوا على الفسوق كانوا يعدون الكمال منافرا لطباعهم، فلا يطيقون معاشرة أهل الكمال، ويذمون ما لهم من الكمالات فيسمونها ثقلا، ولذا وصفوا تنزه لوط عليه السلام وآله تطهرا، بصيغة التكلف والتصنع، ويجوز أن يكون حكاية لما في كلامهم من التهكم بلوط عليه السلام وآله، وهذا من قلب الحقائق لأجل مشايعة العوائد الذميمة، وأهل المجون والاخلاع، يسمون المتعفف عن سيرتهم بالتائب أو نحو ذلك، فقولهم **إنهم أناس يتطهرون} قصدوا به ذمهم)
يقول الشيخ سيد قطب – رحمه الله - : (ولكن لماذا العجب؟ وماذا تصنع الجاهلية الحديثة؟ أليست تطارد الذين يتطهرون ، فلا ينغمسون في الوحل الذي تنغمس فيه مجتمعات الجاهلية - وتسميه تقدمية وتحطيما للأغلال عن المرأة وغير المرأة - أليست تطاردهم في أرزاقهم وأنفسهم وأموالهم وأفكارهم وتصوراتهم كذلك؛ ولا تطيق أن تراهم يتطهرون؛ لأنها لا تتسع ولا ترحب إلا بالملوثين الدنسين القذرين؟! إنه منطق الجاهلية في كل حين!!)
فماذا حاق بالقوم الظالمين؟!:
وكما حكى الله مشاهد الصراع بيَّن سننه – سبحانه - الجارية في كل من انحاز لسبيل المجرمين وسار على نهج الطغاة الظالمين ...
فليجتهد كل ظالم في ظلمه فإنه مصيبه من وعد الله وغضبه وعذابه قدر ما يطلبه لنفسه ..ويستحقه بفعله ..
ولا يظنن أحد أن الوعيد للكافرين فقط ، بل هو في حق كل ظالم وطاغية أيضاً ، قال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
فلينتظر الظالمين وعيد الله فيهم وليعمل المتطهرون لوعد الله لهم..
قال تعالى : {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}
وقال تعالى : {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}
وقال تعالى : {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها}
وقال تعالى : {وخاب كل جبار عنيد}
فليتجبر من شاء أن يتجبر وليُقارع الدليل والرأي والحجة بالقهر والبطش والتكبر ..
وليزد في تجبره ليشمل بقية المتطهرين المؤمنين..
وليجمع جنده ويتباهي في سطوته ويتفاخر بتجبره وليجمع كل قوته لعله يدرك المؤمنين ويسحقهم فإن سنة الله الجارية باقية ،وليكونن لمن بعده آية..
وغداً نرى أي الوعدين أصدق ..وعد الله للمؤمنين أم وعود الشيطان للظالمين..؟!!
والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون